قبل أيام من لقاء فلاديمير بوتين في الاسكا، أطلق دونالد ترامب عبارة «مبادلات أرضية» كشرط محتمل لتحقيق السلام، وهو تعبير أثار حيرة واسعة لدى الأوكرانيين: أي أراضٍ يُقصد تبادلها؟ وهل ستُعرض على أوكرانيا أجزاء من روسيا مقابل ما استولت عليه روسيا بالقوة؟
مع استعداد فولوديمير زيلينسكي للسفر إلى واشنطن للقاء ترامب، تزداد الشهادات بأن رئيس الولايات المتحدة قد يضغط من أجل تنازل أوكرانيا عن كامل منطقتي دونيتسك ولوهانسك مقابل تجميد بقية خطوط الجبهة — اقتراح طرحه بوتين في الاسكا. لوهانسك مُسيطر تقريبًا عليها بالكامل من قبل القوات الروسية، أما دونيتسك فتُقدَّر السيطرة الأوكرانية فيها بنحو 30% تشمل مدنًا وحصونًا استراتيجية، على حساب عشرات الآلاف من الأرواح الأوكرانية.
المنطقتان، المعروفتان معًا باسم دونباس، غنيتان بالمعادن والصناعات؛ لذا فإن التخلّي عنهما الآن سيكون «مأساة» حسب وصف المؤرخ الأوكراني ياروسلاف هريتشاك. قال هريتشاك إن هذه أرض أوكرانية، وإن عمال المناجم وسكان المنطقة لعبوا دورًا جوهريًا في بلورة الهوية الأوكرانية، وإن المنطقة أنجبت سياسيين وشعراء ومعارضين بارزين، والآن فيها لاجئون قد لا يعودون إذا أصبحت روسية.
منذ عام 2014 هاجر على الأقل 1.5 مليون من سكان دونباس، ويُقدَّر عدد من يعيشون تحت الاحتلال الروسي بما يزيد عن ثلاثة ملايين، بينما يقيم نحو 300 ألف في الأجزاء التي لا تزال تحت سيطرة كييف. في المناطق الأقرب إلى الجبهة، الحياة صراع يومي وخطر دائم: القسّ العسكري أندري بوريلو، 55 عامًا، من مدينة سلافيانسك التي تعرّضت لدمار كبير، قال في مقابلة هاتفية إن قذائفًا سقطت مجاورًا لمنزله خلال عطلة نهاية الأسبوع. «الوضع هنا شديد الصعوبة، ثمة شعور بالاستسلام والتخلي. لا أدري كم من القوة تبقينا على الصمود. على من أن يحمينا؟ ومن سيفعل؟» وأضاف أنه يتهم ترامب وليس زيلينسكي فيما يخص الشعور بالخيانة بعد الأخبار من الاسكا: «هم يأخذون كل شيء مني، وهذا خيانة».
زيلينسكي كرّر مرارًا رفضه فكرة تسليم دونباس لقاء السلام، والثقة في أن روسيا ستحترم أي اتفاق من هذا النوع ضئيلة؛ إذ قد تُستغل الأراضي المضمومة لاحقًا لشن هجمات جديدة. لذلك، وحسب استطلاعات معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع، نحو 75% من الأوكرانيين يعارضون أي تنازل رسمي عن أراضٍ لروسيا.
مع ذلك، أوكرانيا منهكة جدًّا من الحرب: مئات الآلاف من الجنود والمدنيين قتلوا أو جُرحوا منذ بداية الغزو الشامل، والناس في حاجة ماسة إلى نهاية للمعاناة، لا سيما في دونباس. يقول يفهين تكاشوف، 56 عامًا، عامل إنقاذ طارئ في كراماتورسك: «أنا لا أقيس هذه الحرب بكيلومترات بل بأرواح بشرية. لست مستعدًا أن أهدر عشرات الآلاف من الأرواح مقابل بضعة آلاف كيلومترات مربعة. الحياة أثمن من الأرض». بالنسبة لبعض الناس، المسألة تحسم بهذا الانقسام: الأرض أم الحياة؟ وهذه الحالة تركت زيلينسكي «على مفترق طرق بلا مخرج جيد» كما وصفه النائب المعارض فولوديمير أرييف، الذي حذّر من أن التنازل قد يخرق الدستور ويقترب من سمات الخيانة.
ومن الجانب القانوني، فإن أي تسليم رسمي للأراضي يتطلب موافقة البرلمان واستفتاء شعبي؛ أما السيناريو الأكثر احتمالًا فهو خسارة فعلية للسيطرة دون اعتراف رسمي بها من قبل كييف، وحتّى ذلك الطريق غير واضح الإجراءات، بحسب النائبة إينا سوفسون، التي قالت: «لا فهم حقيقي للإجراءات اللازمة. هل يكتفي الرئيس بتوقيع الاتفاق؟ أم أن على الحكومة أو البرلمان أن يفعلوا ذلك؟ لا توجد عملية قانونية مُهيأة لأن واضعي الدستور لم يتصوروا مثل هذا السيناريو».
من المتوقع أن تتضح بعض المعالم بعد محادثة زيلينسكي مع ترامب في واشنطن، أول زيارة للرئيس الأوكراني إلى البيت الأبيض منذ المواجهة المتوترة في المكتب البيضاوي في فبراير. وبعد قمة الاسكا بدا أن ترامب قد تراجع جزئيًا عن مواقفه حيال ضمانات الأمن، مقترحًا الانضمام إلى أوروبا في تقديم حماية عسكرية لأوكرانيا ضد هجمات روسية مستقبلية؛ وهو ما يضع ضمانات أمنية في قلب أي اتفاق محتمل لقضايا الأراضي أو غيرها.
يؤكد الاستطلاع أن الضمانات الأمنية شرط لا غنى عنه لدى الشعب الأوكراني: «الناس هنا سيقبلون أشكالًا مختلفة من الضمانات الأمنية، لكنهم يطالبون بها» يقول أنطون غروشيتسكي، مدير معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع. وحتى تكاشوف، الذي يؤيد النظر في تبادل الأراضي شريطة توفر ضمانات «حقيقية وليست وعودًا مكتوبة»، يضرب مثالًا عمليًا: «إذا تمركزت البحرية الملكية البريطانية في ميناء أوديسا فأنا موافق».
وأثناء تداول مسارات متعددة للسلام — بعضها يتبع منطق الصفقات الذي يفضّله ترامب — ثمة خطر أن تُغفل العيون الأشخاص الحقيقيين الذين عاشوا عقدًا من الحرب وقد يخسرون مزيدًا من حياتهم وحقوقهم مقابل ما قد يُسمى سلامًا. يؤكد المؤرخ فيتالي دريبنتسيا أن دونباس كان موطنًا لأوكرانيين من شتّى الطبقات والمهن: «لسنا بصدد ثقافة فحسب أو سياسات أو ديموغرافيات، بل عن بشر». وربما لا تملك دونيتسك سمعةً ثقافية كالمدن الأخرى مثل أوديسا، لكنّها كانت جزءًا من أوكرانيا، «وأي ركن من أركان أوكرانيا، سواء أكان ذا أهمية ثقافية كبيرة أم لا، هو أوكرانيا».