مبنى واحد في غزة مشوَّه بندوب القتال — أسر نازحة تبوح بذكريات الحرب

لوسي ويليامسون — مراسلة شؤون الشرق الأوسط، القدس
بي بي سي

مبنى الشعيك، في طريق هادئ متفرع عن شارع عمر المختار بغرب مدينة غزة، كان مشهداً مألوفاً لعشّاق المدينة. الشارع الذي تصطف على جانبيه أشجارٌ كانت في السابق مفضّلاً للأزواج المتواعدين الراغبين في الابتعاد عن أعين المجتمع المحافظ في غزة.

لكن شارع العشّاق كما لُقِّب، والمبنى المكوّن من ستة طوابق الذي يطل عليه، باتا الآن محاطين بالأنقاض. قلّةٌ من السّكّان يتذكّرون أيام الازدهار. أولئك الذين يختبئون هناك اليوم لا يفرّون من أحكام المجتمع، بل من دبابات الاحتلال الإسرائيلي.

الحرب في غزة حوّلت هذا الحيّ bling إلى خراب. المتاجر والمطاعم الأنيقة الممتدة حتى الشاطئ باتت مليئة بلطخات الشظايا وفتحات الطلقات، والحديقة ذات ترتيب الأشجار على الطراز الفرنسي دُفنت تحت ركام رمادي.

مبنى الشعيك نفسه لا يزال قائماً، لكن جدرانه مُغطّاة بشظايا، وفتحة كبيرة بحجم قذيفة مدفعية اخترقت أحد الطوابق العليا. وجوهه قبل الحرب استبدلت بزخّات متغيرة من النازحين الذين باتوا يقطنون فيه.

بعد عامين على اندلاع الحرب، يقدّم هذا المبنى لوحة مصغّرة عن تآكل الروابط بالوطن والمجتمع بين أهل غزة، وعن الأثر الذي خلّفته هذه الحالة على حياتهم.

المستأجرون السابقون لمبنى الشعيك رحلوا منذ زمن. فوق المخازن المغلقة في الطابق الأرضي، تحوّل ثمانية من أصل عشرة شقق في المبنى إلى مساكن مؤقتة لعائلات شُرِّدت بسبب الحرب.

هديل دبان — الطابق الرابع

تعيش هديل دبان، البالغة من العمر ستة وعشرين عاماً، في الطابق الرابع مع زوجها وثلاثة أطفال صغار: جودي تسع سنوات، مراد ستّ، ومحمد سنتان.

وصلت العائلة إلى هنا قبل شهرين، وتدفع ألف شيكل (نحو 305 دولارات؛ 227 جنيهاً إسترلينياً) شهرياً للتخييم في الغرف الفارغة.

قالت هديل إنّ من كانوا هنا قبلهم غادروا لأن الوضع كان خطيراً: “الشظايا تصيب الجدران هنا، لكنّه أفضل من الخيمة.”

قليلٌ من متاع العائلة منظم في أكوام من الحقائب على طول الجدران. شُرَفٌ ممزّقة تغطي الفتحات الكبيرة حيث كانت النوافذ. هذه هي المرة الثانية عشرة التي تنتقل فيها الأسرة.

تصف هديل طريقة تعبئتهم: عندما يضعون الأمتعة على عربة، تضع الأطفال فوقها وتطلب منهم اللعب بما فيها من أشياء المطبخ، وتخبرهم بأنّهم «سنعيش حياة مختلفة، بعيدة قليلاً عن الحياة التي اعتدناها».

منزل العائلة الرئيسي على بُعد أقل من ميل واحد في حيّ التفّاح بمدينة غزة. فرّوا في الأسبوع الأول من الحرب، بعد أن تعرّض شقّة أحد الأقارب فوقهم للضرب.

عادوا بعد أشهر قليلة. لكن في 15 مارس 2024، أدّى ضربة على المبنى المجاور إلى مقتل حَماتها، وإصابة الأطفال الثلاثة، ودفن زوجها حياً تحت الأنقاض.

يقرأ  تجارة المخدرات على الشبكة المظلمةتقارير جرائم حقيقية

“قضينا ساعات نبحث عنه، ووجدناه تحت الركام” قلت.

كان زوجها، عزّ الدين، فاقد الوعي. نقلوه إلى مستشفى الشفاء، حيث أخبروها أنّه مصاب بكسر في الجمجمة وفي غيبوبة.

بعد ثلاثة أيام، وكان لا يزال يتلقى العلاج، أغلقت القوات الإسرائيلية المستشفى وشرعت في عملية عسكرية استمرّت أسبوعين، قالت إنّها تهدف إلى اقتلاع مواقع قيادة لحركة حماس.

لم تلتقِ به هديل إلا بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، إذ وجدته هزيلاً لكنه على قيد الحياة.

تقول هديل إنّه لا يزال يحتاج إلى فحوصات طبية دورية: “كنت أُصطحبه إلى طبيب أعصاب في المدينة، لكن قبل ستّ أسابيع غادَرَ جميع الأطباء إلى الجنوب.”

المنزل ليس مجرد مأوى أو ممتلكات. الثلاث عائلات التي التقت بها فرقنا في مبنى الشعيك حركت متاعها مرات متعددة.

“لم أعد أعرف جيراني، لأنّ الناس الجدد يأتون كل شهر”، تقول هديل. “لا أعلم أين أصبح جيراننا القدامى — بعضهم اتجه إلى الجنوب، وبعضهم قُتل أو جُرح. لم يعد هناك جيران بالمعنى الذي نعرفه.”

في يوم لقاء زميلنا مع هديل، كانت مدينة غزة تشهد موجة نزوح أخرى بينما اتجه مئات الآلاف إلى جنوب البلاد بحثاً عن مناطق أكثر أمناً.

الجيش الإسرائيلي، المتقدّم في أنحاء المدينة، أصدر “تحذيراً أخيراً” بالمغادرة. لكن العائلات التي تحدثنا إليها عازمة على البقاء في منازلها المؤقتة.

خلال حديث هديل مع مصورنا، دوّت سلسلة انفجارات داخل الشقة.

من النوافذ تصاعدت سحب رمادية هائلة على مسافة متوسطة.

حتى أنّ طفليها الصغيرين لم يُبديا أي ارتعاش.

بُني مبنى الشعيك عام 2008، على خلفية طفرة إنشائية اجتاحت مدينة غزة في منتصف تسعينيات القرن الماضي. كان موقعه ممتازاً إلى جانب المدرسة الأمريكية الدولية وعلى بعد مبنى واحد من البرلمان الفلسطيني — وهما الآن في حالة خراب.

كان هذا الموقع المركزي، المتفرع عن شارع عمر المختار الرئيسي، سبب وقوع مبنى الشعيك في مرمى دبابات الاحتلال خلال الشهور الأولى للحرب.

يقع مستشفى الشفاء على بعد مربعين إلى الشمال. خلال أسابيع من الغزو، تحرّك الجيش الإسرائيلي للسيطرة على المجمع، زاعماً أنّه يُستخدم كقاعدة لحماس.

تقدّمت القوات من عدة اتجاهات، بينها الطرق المحيطة بشارع عمر المختار.

في الجهة الخلفية من مبنى الشعيك، فجوة مستطيلة كبيرة انفجرت في الجدار. ومن الداخل، نقش عبري يقرأ: “الساموراي الأخير” — إشارة إلى فيلم هوليوودي عن محارب ياباني في القرن التاسع عشر تعرض لأسلحة أكثر تطوراً.

سألنا الجيش الإسرائيلي عمّا إذا كانت قواته قد استخدمت المبنى أو خاضت معارك فيه. لم نتلق رداً.

يقرأ  قُتل أثناء السعي إلى الطعامجيريمي بوين عن إطلاق النار على عبد الله ونظام المساعدات القاتل في غزة

لكن صاحب المبنى، شاكر شيخ، قال لنا إن البلوك استُخدم نقطة مراقبة من قبل قوات إسرائيلية أثناء العمليات.

وصَرّحَت إسرائيل أنها استهدفت عدة مجمّعات كان يستخدمها قنّاصون فلسطينيون في المنطقة في مارس.

وبقيت القوات البرية في مدينة غزة لشهور في الأشهر الأولى من الحرب، وشهدت المدينة هجوماً ثانياً على مستشفى الشفاء في مارس 2024، بينما كان زوج هديل يتلقى العلاج داخله.

مع هذا التبدّل السريع لسكان المبنى، لم يعد أحد فيه يتذكّر ما جرى في تلك الشهور الأولى من الحرب.

لكن القتال ما زال مستمراً حوله.

مُنى شبت — الطابق الخامس

في الشقة فوق شقة هديل، تلعب منى أمين شبت، البالغة من العمر 59 عاماً، مع أحفادها تحت ثقوب رصاص كبيرة اخترقت الجدار.

“قبل يومين، أصابت الرصاصات هنا، داخل المبنى”، تقول. “أمْسكت بالأطفال وهرولت بهم إلى هناك حيث الأمان أكبر. جلسنا ندعوا الله أن ينجونا. الأطفال كانوا مرعوبين.”

منى أيضاً من حي الطفح — الطفح أو التُفّح؟ — تعيش هنا منذ أغسطس مع زوجها وثلاثة من أولادها وأحفادها. لا يدفعون إيجاراً. فقدت العائلة كل شيء، تقول منى، عندما دُمّر بيتهم بعد أسابيع من بداية الحرب.

“سوّوا منطقة الطفح بأكملها — كلها، لم يُبقَ بيت واحد. نعيد بناء حياتنا قطعة قطعة، ملعقة بملعقة، طبقاً طبقاً. حلّ الجوع، ودرَّسنا علف الحمام لنأكله، وكنا نعيش على الخضار البرّية. بعد عامين من الحرب أقول إني لست على قيد الحياة، أنا من الموتى.”

أحد السكان الآخرين، من بلدة بيت لحيا في الشمال، قال لنا إن منطقته صارت الآن “أرضاً قفراء” بعدما جرفت جيش إسرائيلها إلى الأرض. “لا توجد منازل ولا حتى شوايد تبين أن هنا كان حياً ذات يوم،” قال.

تقول الأمم المتحدة إن 90% من المباني السكنية في غزة تضررت أو دُمّرت. أحياء كاملة — بتاريخها المشترك، وروابطها العائلية، وشبكات الدعم الاجتماعي — بُنيت ثم أُزيلت.

لكن مفهوم الوطن أصعب من أن يُقضَى عليه بالطوب والهيكل.

عندما زار مصورنا شقة منى، كانت اثنتان من حفيداتها ترسمان لوحة: بيت صغير مُهَذّب بسقف من القرميد الأحمر المائل، الشمس على الأفق، سماء وردية وزرقاء، وأشجار ونباتات.

الصورة تبدو وكأنها من كتاب قصص — لا تشبه المكان الذي يعيشون فيه الآن.

والدمار الواسع للمساكن والمجتمعات غالباً ما أدى إلى تفكك العائلات في سبيل البقاء.

من بين خمسة أولاد لمى، انتقل اثنان إلى الجنوب، وآخر ذهب لينزل عند أهل زوجته. الباقون، كما تقول، جاؤوا وذهبوا. حتى هي وزوجها قضيا شهوراً مفترقين قبل الانتقال إلى مبنى الشيخ، بينما كانت منى تحتضنها الأقارب.

يقرأ  ستيف ماكوين يؤلف الموسيقى التصويرية لعرض بوتيغا فينيتا في ميلانو

العائلة الممتدة التي كانت تحيط بها وتثبّت عالمها بدأت تتفكّك.

“نحن مشتتون. الفراق أصعب شيء”، قالت. “نزعت منا الحياة. صحتي تلفت. بيتنا انتهى، وأعز الناس في قلوبنا انتهوا — لم يبقَ لنا شيء.”

شوقي الأنصاري — الطابق الأول

إحساس تعرفه شوقي الأنصاري جيداً.

قادم في الأصل من بيت لحيا التي أصبحت أرضاً محروقة، قال إن والدته وأخته نائمتان في الشارع بجنوب غزة، بينما يعيش شوقي مع زوجته وسبعة أولاد في الطابق الأول من مبنى شيخ.

قبل أربعة أشهر اختفى أخوه.

“ذهب ليأخذ دقيقاً من بيت أحد أقاربنا في الشجاعية [على الحافة الشمالية لمدينة غزة]. لا نعرف ما الذي حلّ به حتى الآن. بحثنا في كل مكان ولم نجده.”

الدوران المستمر للناس بحثاً عن طعام أو أمان أو مأوى صعّب الحفاظ على تماسك الأسر.

“كنا نعيش على ما يرام قبل ذلك،” قال شوقي. “الآن أخي مفقود، ونحن كلنا متفرقون في أماكن مختلفة.”

واحداً تلو الآخر، رُخّصت المراسي التي كانت تُبقي الناس في مكانهم — البيت، المجتمع، العائلة — بفعل الاقتلاع المستمر لسكان غزة وطمس أحيائها وشوارعها.

والآن، جالساً في غرف ملمّعة بالخرسانة الفارغة في مبنى شيخ، يرى شوقي مستقبله يتبدد. كان أولاده متفوقين في المدرسة قبل الحرب، لكنه يقول إنهم الآن ينسون القراءة والحساب.

الحركة المستمرة تجمّد حياتهم.

بعد أيام، تلقّينا اتصالاً من هديل. هي وعدد من العائلات في مبنى شيخ كانوا يتحرّكون مجدداً.

قوات إسرائيل أسقطت قنابل دخانية عبر المنطقة، أخبرتْنا، لتعلن أنها على وشك الدخول.

“لم نرَ الدبابات الليلة الماضية،” قالت، “لكن إن لم نغادر الآن سنستيقظ عليها غداً.”

كانت هديل تُعِد أمتعَتَها عندما تحدثنا إليها، تخطط أن تنضم لأخيها القريب قبل أن تحاول التوجّه جنوباً معهم.

“سنبقى في الشوارع ونعيش في خيمة،” قالت. “مهما فعلنا، لا شيء سيُعيد ما في داخلنا. أولادي لم يعودوا أولادي. في عيونهم الآن معاناة أكثر من البراءة.”

في أرجاء غزة، أصبحت المباني المتبقية محطات عابرة للعائلات، تجمعهم ثم تفصلهم الحرب.

لو نجحت المفاوضات، قد تنهي السلام تنقلاتهم، وقد يفتح الإعمار أمامهم مستقبلاً مختلفاً.

لكن حياتهم القديمة وراءهم.

هذه الحرب مسحت الطريق إلى الماضي.

تغطية إضافية من عامر بيرزادة وزملاء من غزة. التصميم من فريق الصحافة البصرية في BBC. لم يتضمّن طلبك أي نصّ للترجمه أو لإعادة الصياغة.
هل تفضّل أن ترسل النصّ الآن كي أتمكّن من ترجمته وإعادة صياغته؟

أضف تعليق