من أوشفيتز مرورًا بالبوسنة ووصولًا إلى غزة ثمن الصمت — إبادة جماعية

حينما نمنع الإبادة الجماعية أو نضع حدًّا لها، نُحيّي ذكرى الضحايا الذين سبقونا ونُبقي آثارهم حاضرة في وجداننا. نُرسّم فاصلاً واضحًا بين سلوك الإنسان المعقول وقدرته على ارتكاب عنف لا يُتصوّر تجاه الآخرين. وبذلك نُسهِم في منع تكرار معاناة الماضي.

من هنا ينبع الألم العميق لدى الناجين من الإبادة، ولدى من ورثوا صدمات آبائهم وأجدادهم، وهم يشاهدون الفظائع التي تُرتكب اليوم من قِبَل دولة اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. طبعًا نحزن على عشرات الآلاف من الأبرياء، بمن فيهم الأطفال، الذين ذبحوا في غزة؛ لكننا أيضًا نشعر بالخيانة: لأن تكرار العنف الإبادِي يُهين ذكرى الأحبّة الذين فقدناهم منذ زمن بعيد.

نكتب هذه العمود كلٌّ منا من موقعه لأن فظائع الإبادة لا تزال تتردّد في نفوسنا يوميًّا: والد جيل، جين، سُجِن في أوشفيتز عام 1944 وهو في السادسة عشرة من عمره؛ ودامير كان طفلاً في البوسنة أثناء الإبادة والتطهير العرقي في تسعينات القرن الماضي. فقد كلانا عشرات الأقارب الذين اختفوا في غرف الغاز أو بين شتات القبور الجماعية.

شكل شهود العيان على الفظاعة تغيّر عبر الأجيال. عند جين، كان أهل بلدته في المجر يمرّون بجوار اليهود وهم يُهانون، والمعلمون يقفون صامتين حين دعا نازي مجري للحديث في مدرسته العليا وهو يصرخ بأن اليهود سبب كل مشكلات أوروبا. أحد هؤلاء المعلمين ساعد الشرطة المجرية في تحديد هوية اليهود في البلدة لتتم ترحيلهم. وآخرون رصدوا المشهد من وراء ستائرهم وهم يرون اليهود يُقتادون بعيدًا.

في البوسنة عام 1992، شهد القرويون آليات الموت تعمل وهم يشاهدون حفر القبور الجماعية، وشمّوا رائحة الجثث المتحللة ولم يتكلموا. الجيران تطلعوا من نوافذهم بين الستائر وصمتوا. أما أوروبا فتابعت حصار مدينة دامير، سراييفو، على الهواء مباشرة لمدة 1,425 يومًا متواصلاً. قُتل ألف وخمسمائة طفل؛ وأُصيب خمسة عشر ألف طفل. وفي عام 1995، في سربرينيتشا — التي أعلنت «منطقة آمنة» تحت حماية الأمم المتحدة — شاهد العالم كيف فُصل ثمانية آلاف رجل وفتى عن عائلاتهم أمام جنود الأمم المتحدة وقُتلوا بشكل منهجي خلال عطلة نهاية أسبوع.

يقرأ  وداعًا لأدلة المذاكرة؟ صناعة الذكاء الاصطناعي تستهدف الطلاب

الخيانة القصوى للإبادة لا يَرتكبها القتلة فحسب، بل من يحجمون عن النظر. لا تقوم الإبادة على الجلّادين وحدهم، بل على المتفرّجين أيضًا. الإبادة البوسنية عُرضت على نشرة المساء فصار ملايين المتفرجين شهودًا عالميين.

اليوم، تتيح لنا وسائل التواصل الاجتماعي أن نسمع الضحايا ونتواصل معهم أثناء وقوع الإبادة. تخيّل لو أن جين استطاع أن ينشر إلى أيّ واحدٍ مستمعٍ كلّ ما عاشه من عمل قسري، حصص جوع، ورعب الانتقاء اليومي الذي قد يختار أيًّا منهم لإرساله إلى غرف الغاز. أو لكان دامير، بصفته طفلًا بعمر عشر سنوات، قد نشر عن خوفه من الموت في قبو عمارة سكنية في سراييفو، عن الصوت المرعب لقذيفة الهاون عند ارتطامها، وعن كيف يمزّق القصف اللحم والعظم بسهولة.

وربما نتخيّل كذلك أن دامير أعاد نشر فيديو لصديقه ابن الاثني عشر إبراهيم يصوّر والدَيه وشقيقه عمر البالغ من العمر عشر سنين وهُم يفرّون من قريتهم المشتعلة، قبل أن يعترضهم الصرب في جبال جنوب البوسنة؛ ينقطع الفيديو فجأة عند لحظة أسرهم. إبراهيم وعمر قُتلا مع أسرتهما، وظلت عظامهم متناثرة في قبور جماعية غير معنونة.

قبل عامين لكنا سنظن أن مثل هذه الاتصالات الشخصية التي يراها ملايين الناس كان من شأنها أن تضع حدًا للمعاناة. كنا نظن أن غياب الرؤية المباشرة، وغياب العلاقة الشخصية، وقلة التفاصيل عن معاناة البشر هو ما سمح بوقوع الإبادة—ما جعل الوقوف موقف المتفرج ممكنًا.

هل كان إيماننا بالإنسانية مفرطًا؟ الاختبار الآن. خلال الهولوكوست، كان هناك من تدخّلوا لإنقاذ أرواح. عندما جرى تقييد عائلة جين وهي تسير في الشوارع، رأى معلّمًا آخر يقف على شرفة منزله حزينًا ويُخاطبهم بإيماءة قبعته احتراما. وبعد أشهر من الجوع في معسكر عمل عبيد، أُسند جين للعمل مع مهندس مدني ألماني كان يُطعمه طعامًا مسروقًا من مطبخ الـ SS. لم تختلف البوسنة: كان هناك أناس صالحون فعلوا أعمالًا شجاعة. بعضهم لم يستطع أن يقتل ضحاياه؛ خفّضوا أسلحتهم ومضوا. صديقة دامير أُنقِذت بوساطة جار صربي خاطِر بحياته لتهريب أسرتها من معسكر اعتقال سيء السمعة في شرق البوسنة حيث تعرّضوا للتعذيب لمدة سبعة عشر شهرًا. وبعد عقود، سمت تلك الصديقة مولودتها باسم من أنقذها.

يقرأ  تحتج أكثر من 250 وسيلة إعلامية على مقتل صحفيين في غزة على يد إسرائيلأخبار الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ

في عام 2000، بعد وقت قصير من وصوله كلاجئ إلى أستراليا، كان دامير يمشي في حرم جامعة لا تروب حيث كان يدرس، فلفت انتباهه بين طبقات الملصقات المُلصقة على عمودٍ ما شيءّ ما. من خلال تنقيب بطئ كشف عن عبارة «الصمت موافقة» ووجد ملصقًا من عام 1993 يدعو إلى احتجاج في شارع بورك ضد القتل في البوسنة. هذا الأثر من النضال والمقاومة أراه أن الناس على الطرف الآخر من العالم كانوا يحاولون المساعدة بينما هو وأسرته يكافحون للبقاء على قيد الحياة.

ربما الاحتجاجات الأسبوعية في ملبورن وحول العالم تضرب نفسَ الوتر من التضامن. والآن أسطول الصمود في طريقه إلى غزة ليقوم بأكثر من مجرد احتجاج، بل للتدخّل. قد لا ينجحون في إيصال المساعدات إلى من هم في حاجةٍ إليها — فهل سيأخذ آخرون مكانهم؟ هل سنشكّل صفًا لا ينتهي من الناس العاديين المستعدين للتضحية لوضع حدّ للإبادة — فلا نكون بعد الآن متفرّجين؟

لم تعد هناك ستائر للاختباء خلفها. الضحايا على شاشاتنا، في بيوتنا، يتضرّعون إلينا أن نتحرّك. وخيار الفعل أو الامتناع عنه هو خيارنا جميعًا.

وجهات النظر الواردة في هذا المقال رأي المؤلفين ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

أضف تعليق