مياه العصور الغابرة: سرّ تبريد كوكب الأرض

بين 800000 و430000 سنة مضت عاشت الأرض سلسلة من الاحترارات المعتدلة إلى حد ما التي يسميها العلماء الآن «فترات بين جليدية فاترة». كان الهواء فوق القارة القطبية الجنوبية بارداً خلال تلك الفترات، وكانت مستويات ثاني أكسيد الكربون أقل بنحو 30–40 جزءاً في المليون عما سجّلته الفترات البينية اللاحقة.

نافذة إلى مياه قديمة

قاد فريق دولي من الباحثين الدكتور هوانغ هوانغ، الحاصل على دكتوراه من مركز GEOMAR للأبحاث البحرية في ألمانيا ويعمل حالياً باحثاً مساعداً في مختبر لاوشان بمدينة تشينغداو بالصين. اعتمد الفريق تقنية جديدة تتيح إمعان النظر في سجل المحيطات القديم.

درس العلماء قشرة غنية بالحديد والمنغنيز جُمعت من قمة هاكسباي تحت بحر على حافة القارة القطبية الجنوبية في المحيط الهادئ. هذه القشرة المعدنية التي تراكمت ببطء على بعد ما يقارب ميلاً تحت قاع البحر تشبه كبسولة زمنية محيطية، توثّق كيمياء مياه البحر طبقةً بعد طبقة عبر مئات الآلاف من السنين.

باستعمال تقنية نحت ليزري ثنائية الأبعاد، فحص الباحثون شظايا دقيقة من القشرة لقياس التركيب النظائري للرصاص بكمّيات ميليغرامية. تقوم الطريقة بتبخير قطعٍ متناهية الصغر من المادة ثم تحليل البخار لتحديد تركيبها العنصري والنظائري.

«تفتح هذه التكنولوجيا الليزرية آفاقاً جديدة تماماً في إعادة بناء المناخ»، قال الفيزيائي د. يان فيتشكه، رئيس مختبر قياسات الليزر في GEOMAR. «ستساعدنا على فهم أعمق لدور المحيط الجنوي في دورة الكربون العالمية واتجاهات المناخ المستقبلية.»

قراءة يوميات كيمياء المحيط

بتتبّع نسب بعض نظائر الرصاص—مثل ^208Pb/^206Pb و^206Pb/^204Pb—نجح العلماء في إعادة بناء اختلاط المحيط وانتقال كتل المياه خلال آخر 800000 سنة. هذه النسب تعمل كالبصمات لمصادر مياه مختلفة. فمياه القاع القطبية (Antarctic Bottom Water)، المتشكلة قرب القارة الجليدية، تحمل بصمة نظيرية مميزة تختلف عن مياه الأعماق القادمة من المحيط الهادئ.

يقرأ  ناجي من جريمة قتل بفعل فطر سام يروي أمام المحكمة أثر وجبة الغداء

كانت الدلائل قاطعة: في الفترات البينية الدافئة الفاترة كانت نسب ^208Pb/^206Pb أعلى مما هي عليه في الفترات البينية الأحدث والأكثر دفئاً، ما يوحي بدخول أقل لمياه القاع القطبية إلى المحيط العميق. وتشير هذه النتيجة إلى محيط أكثر تقسيماً أو «تدرجاً» stratified، حيث انفصلت المياه العميقة عن مياه السطح.

على النقيض من ذلك، شهدت فترات الجليد مزيداً من الاختلاط، كما انعكس ذلك في قيم نظيرية أدنى. ولأن الرصاص في البحر يمتلك عمر نصف قصير نسبياً—بضعة مئات من السنين على الأكثر—فالتغيرات المحفوظة في القشرة تعكس تحولات آنية محلية، لا العمليات العالمية الأطول أمداً التي تميل إلى طمس إشارات المناخ في الرواسب.

صلة الكربون

لماذا يؤدي المحيط الأكثر تدرجاً إلى عالم أبرد؟ الجواب مرتبط بكيفية تبادل الكربون بين المحيط والغلاف الجوي. تخزن المياه العميقة كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون المُذاب. ومع تراجع الاختلاط العمودي يبقى هذا الكربون محتبساً في الأعماق بدلاً من التحرّر إلى الهواء.

تقديرات الباحثين تشير إلى أن التقليل من الاختلاط خلال الفترات البينية الدافئة حافظ على ثاني أكسيد الكربون الجوي أقل بنحو 30–40 جزءاً في المليون مقارنة بالفترات الدافئة اللاحقة. تجارب نمذجة تُظهر أن التدرج الأكبر للمحيط، وزيادة غطاء الجليد البحري حول القارة القطبية، وانخفاض الصعود العميق للمياه يمكن مجتمعة أن تُخفض مستويات CO₂ بنحو 36 جزءاً في المليون—قيمة تقارب ما يشير إليه سجل النظائر.

ما بعد حدث ميد-برونهس

انقلب هذا النمط بعد حدث ميد-برونهس قبل نحو 430000 سنة، إذ أصبحت الفترات البينية أطول وأكثر دفئاً. ومنذئذ ارتفعت تركيزات CO₂ في الغلاف الجوي وزاد اختلاط المحيط، وهو تغيير جوهري في طريقة مساهمة المحيط الجنوبي في استقرار درجات الحرارة العالمية.

يقرأ  عُثرَ على كنيسةٍ مسيحيةٍ من العصور المتأخرة على طريق الحج المصري

أسباب التدرج العميق

قد تكون عدة عوامل ساهمت في زيادة تدرج المحيط الجنوبي خلال تلك الدورات القديمة. برد الهواء فوق أنتاركتيكا وتوسع الجليد البحري مكّنا من تشكل مياه قاع أكثر كثافة، ما أنتج تبايناً كثافياً حاداً عارض الاختلاط العمودي. بالمقابل أدى تراجع الصعود العميق إلى إضعاف الدورة التي تُجلب المياه الغنية بالمغذيات إلى السطح.

كما ربما لعب انخفاض الإنتاجية البيولوجية—قلة الكائنات البحرية التي تحول الكربون عبر التمثيل الضوئي وتغوص به إلى قاع المحيط—دوراً مكملاً. معاً، ساعدت هذه التحولات على «حبس» الكربون في الأعماق وإبعاده عن الغلاف الجوي، مما أعاق ارتفاع درجات الحرارة العالمية.

نقاط القوة والأسئلة العالقة

ما يميّز هذه الدراسة هو دقة بياناتها واتساق موقع العينة. لأن القشرة الحديدية-المنغنيسية تشكلت في محيط مفتوح مع تلوث رسوبي محدود، فقدمت سجلاً نقيّاً لكيمياء مياه البحر. كما أن الباحثين أجروا تأريخاً متقاطعاً لجزأين متميزين من نفس القشرة فحصلوا على تواريخ نظيرية شبه متطابقة، مما عزّز ثقتهم في النتائج.

مع ذلك، تظلّ بعض الأمور غير مؤكدة. من الصعب تأريخ قشرة بهذه القدم—لا سيما ما قبل 450000 سنة—لأن معدل النمو ضئيل للغاية، إذ يقدّر بنحو مليمتر واحد لكل مليون سنة تقريباً. يستخدم الباحثون نظائر اليورانيوم والثوريوم لتأريخها، لكن لهذه النظائر تباينات طبيعية قد تولّد أخطاء طفيفة. ومع ذلك، تتوافق الاتجاهات العامة مع ملاحظات مستقلة من نوى الرواسب وسجلات نظيرية أخرى في المحيط الجنوبي.

تدعم النتائج الاعتقاد المتزايد بأن المحيط الجنوبي، وليس الأطلسي، كان المسؤول بصورة أساسية عن تغيرات CO₂ خلال الفترات البينية الفاترة. في حين ظلت دورة التقليب الأطلسية مستقرة نسبياً، بدت تعديلات في مياه حول أنتاركتيكا كفيلة بإعادة تشكيل قدرة المياه العميقة على تخزين الكربون.

يقرأ  بسدٍ عملاق ودهاءٍ سياسي: إثيوبيا تتفوق على مصر في ملف مياه النيل

دروس من تغير مناخي قديم

تندرج هذه الاكتشافات في سياق الهواجس المعاصرة بشأن الاحتباس الحراي. مع ارتفاع درجات الحرارة الذّا وحلول ذوبان الجليد البحري في أنتاركتيكا، قد يفقد المحيط الجنوبي جزءاً من قدرته على امتصاص الكربون. سيصبح المحيط أقل تدرجاً ويُفضي ذلك إلى تدفّق أكبر للكربون العميق نحو السطح، مع ما يترتب عليه من تعزيز التأثير الدفيئي.

«تُظهر بياناتنا لأول مرة أن تدرج المحيط الجنوبي الأشد كان عاملاً رئيسياً في الفترات البينية الباردة نسبياً التي سبقت حدث ميد-برونهس»، قال د. هوانغ. «اكتشاف هذه العمليات يساعدنا على تقدير مدى تأثير تغيّر بنية المحيط على المناخ طويل الأمد.»

أبعاد عملية للبحث

تقدّم هذه النتائج تذكرة باردة للوقت الحاضر: إن استمرار الاحترار عبر القرون الماضية وتزايد ذوبان جليد البحار سيقوضان قدرة المحيط العميق على تخزين الكربون، ما يسرع من وتيرة تغير المناخ عن طريق إعادة ضخ CO₂ إلى الغلاف الجوي.

بعيداً عن توقعات المناخ، قد تغيّر طريقة الليزر الجديدة التي ابتكرها هوانغ نهج إعادة بناء المواطن القديمة لدى العلماء. بقراءة «صفحات» الكيمياء داخل القشور المعدنية، يمكن للباحثين تتبّع تطور أنماط دوران المحيط عبر مئات الآلاف من السنين—معرفة قد تُحسّن نماذج المناخ وتوجّه استراتيجيات إدارة الكربون العالمية.

النتائج متاحة على الإنترنت في دورية Nature Communications.

أضف تعليق