زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الولايات المتحدة أمس في زيارته الخامسة منذ تولي الرئيس دونالد ترامب السلطة في كانون الثاني. قبل اللقاء، وصفت الصحافة الإسرائيلية نتنياهو بأنه منخرط تمامًا في محاولة لطمأنة شركائه السياسيين المحليين عبر تحقيق “تنازلات” من ترامب. فما هي هذه التنازلات؟ كانت في مجملها تتعلق بمنع وجود تركيّا في قوة استقرار غزة والحصول على موافقة أميركية لضربة إسرائيلية ضد إيران.
فشل نتنياهو في تحقيق الأمرين معًا. فقد أشار ترامب تحديدًا إلى علاقته الجيدة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتكلم عن احترام “بيبي” له كذلك. وفيما خص إيران، ذكر ترامب استعداد إيران لـ”إبرام صفقة” وحدد خطوطًا واضحة لمشاركة أميركا، من دون أن يذكر أي تفويض لعملية إسرائيلية منفردة. وتقترح وسائل الإعلام الإسرائيلية أن ترامب منح اسرائيل “الضوء الأخضر” لضرب إيران؛ لكن ذلك لا ينسجم مع بيان ترامب الرسمي بأي شكل من الأشكال.
تحدث ترامب عن بدء إعادة إعمار غزة “قريبًا”. وعندما تطرق إلى نزع سلاح حماس، قال إنه يجب أن يحصل وإلا فستتدخل قرابة ستين دولة للقيام بذلك. وحماس قد وافقت مسبقًا على نزع سلاح إذا نفذته قوة يقودها طرف فلسطيني. لم يدل ترامب بكلام يوحي بأنه يختلف مع منطق حماس في هذا الشأن، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار رفض معظم الدول المشاركة لخيارات العنف القسري لنزع السلاح. كما لم يذكر ترامب مسألة آخر جثة أسير محتجز في غزة كشرط ضروري للانتقال إلى “المرحلة الثانية” من الاتفاق.
لا شيء في عالم ترامب أهم من اللغة والإيماءات الرمزية. حين وصف نتنياهو بأنه “رئيس وزراء عظيم في زمن الحرب” أثناء حديثه عن مخططه للسلام، أراد أن يبيّن أن وقت ضيفه بدأ ينفد. وكان ذلك واضحًا أيضًا عندما قال إنه تحدث مع رئيس الدولة الإسرائيلية إسحاق هرتزوغ حول منح عفو لنتنياهو، وأنه طمأن إلى أن هذا العفو وشيك؛ وهو ما نفاه الرئيس هرتزوغ جملة وتفصيلاً.
ما قد يكون أفضل انعكاس للقاء ترامب ونتنياهو في مار-أ-لاجو يتعلق بمكالمة قصيرة على الهاتف بين ترامب ووزير التعليم الإسرائيلي يوآف كيش، أُجريت ليُبلغ كيش ترامب بأنه سيُمنح جائزة إسرائيل في يوم الاستقلال لعام 2026.
الجائزة يمنحها وزير التعليم في حفل تلفزيوني يحضره قادة الدولة ويختتم به احتفالات يوم الاستقلال. عادة ما تُمنح للجَامعين الأكاديميين في نهاية مساراتهم المهنية، وهي تعكس تفانيًا مادامياً لتوسيع المعرفة الإنسانية. أحيانًا تُمنح جوائز خاصة في فئات مدنية، غالبًا لما يُسمى “عمل حياة” مثل تعزيز التعايش بين اليهود والفلسطينيين أو الدفاع عن المساواة الاجتماعية، إلخ.
وعلى نحوٍ متوقع من اسمها، تُمنح الجائزة غالبًا لمواطني الدولة، لكن يمكن أن تُمنح ليهود مقيمين في الخارج وحتى لغير اليهود الذين قدموا “إسهامًا خاصًا للشعب اليهودي”.
بمعنى آخر، تضمن لقاء ترامب ونتنياهو أن يوجّه ترامب إرشادات لنتنياهو بشأن إجراءات قادمة، فيُصغي نتنياهو ويُجيب بتقديم تكريم شبه وهمي جديد لرأس ترامب المزدحم بالفعل.
ومع ذلك، وبالرغم من هذه المظاهر الصريحة لطبيعة العلاقات غير المتكافئة، ثمة أصوات متكررة تقول إن ترامب ونتنياهو يعملان في تواطؤ. بحسب هذه التحليلات، فإن الولايات المتحدة تدعم بالكامل محاولة اسرائيل “تغيير الشرق الأوسط” — عبارة نتنياهو المفضلة — بينما يتحول الأميركيون إلى آسيا في سباق النفوذ مع الصين.
ستتولى اسرائيل “المعالجة” ضد “التهديد الإيراني” بينما يغرق العرب في توتراتهم ومنافساتهم الداخلية التي لا ينفع معها حل. وتكاد تعبئة الدول العربية بعد الضربة الإسرائيلية على الدوحة أن تُتجاهل.
تشير هذه الأصوات أيضًا إلى أن اسرائيل تستمر في تجاهل “وقف إطلاق النار” الذي نصت عليه “المرحلة الأولى” من خطة ترامب، وتفعل ذلك بدعم كامل من الولايات المتحدة. وفي الواقع قال ترامب إن اسرائيل التزمت بوقف إطلاق النار “مئة بالمئة”، وأنه لا مشكلة لديه مع إجراءاتها في غزة. وتلك الإجراءات تشمل القصف وتدمير المباني والبنى التحتية وعرقلة المساعدات المنقذة للحياة في ظل ظروف جوية قاسية، والعديد من الخطوات الأخرى التي تضمن وتوسع ما يصفه البعض بالإبادة الإسرائيلية الجارية.
ومن الصعب جدًا التوفيق بين هذا الواقع وفكرة أن اسرائيل فقدت كل الخيارات لتأجيل المرحلة الثانية والحل الذي تُشرف عليه جهات دولية لإقامة دولة فلسطينية. فالإعلام الإسرائيلي يتحدث مرارًا عن مبادرات لـ”تسوية غزة”، و”إعادة توطين” مليون ونصف فلسطيني في أرض الصومال، وتفكيك اتفاقيات أوسلو، مجتمعًا فلسطينيًا مُطَهَّرًا عرقيًا تلو الآخر.
الولايات المتحدة ودول أخرى مثل ألمانيا والمملكة المتحدة تستمر في شراء السلاح لإسرائيل بمعدلات هائلة وتزويدها بعتاد من إنتاجها. فكيف يمكن الخروج باستنتاج مفاده أن الإبادة الإسرائيلية تقترب من نهايتها؟
الجواب القصير: ليست كذلك. اسرائيل تواصل القتل والتدمير والتخريب وتوسيع جهودها لزعزعة أي نسق إقليمي. على سبيل المثال، اعترفت اسرائيل بدولة أرض الصومال لتكون بمثابة “مكب” للفلسطينيين المطرودين عرقيًا، ولكي تهيّج الخلاف بين الإمارات والسعودية إذ لهما مصالح متضاربة في الصومال، وبذلك تضمن أن يبقى الملف الفلسطيني دون معالجة وأن يظل الخوف من السلاح الإسرائيلي شللًا مهيمنًا.
أما الجواب الأطول فيعترف بتأثيرات هذه الإبادة على اسرائيل نفسها: الإبادة تفتك بالفاعلين الذين يمارسونها.
ليس المقصود أن العدل مضمون بقوى كونية؛ فالأمر بعيد عن ذلك. يجب السعي إلى العدالة على مستوى واقعي ومؤسسي، شأنها شأن الحفاظ على كرامة وحياة الفلسطينيين.
ومع ذلك، فقد شكّلت هذه الإبادة اسرائيل على نحو يومي وفوري. العنف يتصاعد بسرعة مقاربة لارتفاع أسعار المواد الأساسية، والديمقراطية تتراجع، ولا نهاية في الأفق لـ”حرب أبدية”. هذه ليست مسألة استراتيجية مجردة.
ورغم أن اسرائيل تسعى منذ نحو ثمانين عامًا إلى إلغاء الهوية الفلسطينية، فإنها لم تنجح في ذلك. تناقضات اسرائيل الداخلية ظهرت بقوة شلّت الحركة خلال العامين الماضيين.
لن تموت اسرائيل أو تتلاشى، لكن الفجوة بين تصور الإسرائيليين للعالم وتصوّر العالم لاسرائيل لم تكن أوسع من قبل.
ترامب ورؤيته لأميركا لا يقدّران “الخاسرين”. لم تعد لدى اسرائيل أي “انتصارات” على المدى البعيد. يمكنها وتفعل القتل والحرق والمماطلة والتظليل.
حتى ترامب يعترف أن هذه القوة لا تُحدث أثرًا دائمًا بعد تطبيقها الفوري. لا خيارات أمام اسرائيل. لا خسارة أعظم من ذلك.
الآراء المعبر عنها هنا تخص كاتبها وليست بالضرورة انعكاسًا للموقف التحريري لشبكة الجزيرة.