استدعت وزارة الخارجية الدنماركية الأربعاء دبلوماسياً أميركياً بارزاً لبحث تقارير استخباراتية تفيد بأن مواطنين أميركيين حاولوا سراً التأثير على السكان في جزيرة غرينلاند — إقليم ذي حكم ذاتي يتبع للدانمارك — لحثّهم على معارضة السيادة الدنماركية، وهو الإقليم الذي أبدا الرئيس دونالد ترامب طموحاته في ضمه للولايات المتحدة.
بماذا اتهمت الدنمارك الولايات المتحدة؟
استدعت كوبنهاغن السيد مارك ستروه، القائم بأعمال بعثة الولايات المتحدة في الدنمارك، بعد أن نقلت وسائل إعلام دنماركية تقريراً يفيد بأن ثلاثة أميركيين على الأقل، لهم صلات بترامب، قاموا بعمليات سرية تهدف إلى تشجيع غرينلاند على الانفصال عن الدنمارك والانضمام إلى الولايات المتحدة، بحسب مصادر لم تُكشف هويتها. وذكر التقرير أن هؤلاء الأفراد كانوا تحت مراقبة السلطات الدنماركية وأن أنشطتهم المزعومة شملت إعداد قوائم بأسماء غرينلانديين مؤيدين لترامب وجمع معلومات حول التوترات بين الدنمارك وغرينلاند.
وقالت رئيسة الوزراء ميتّ فريدريكسسن: «أي تدخل في الشؤون الداخلية للمملكة الدنماركية وديمقراطية غرينلاند غير مقبول». وأضافت أنها لاحظت أن الجانب الأميركي لم ينفِ تقرير الهيئة الإعلامية الدنماركية بصراحة، وهو أمر جاد بطبيعة الحال. كما أشار وزير الخارجية الدنماركي لارس لوكه راسموسن إلى معرفته بوجود «جهات فاعلة أجنبية» مهتمة بوضع غرينلاند داخل المملكة.
وصفت كريستين نيسن، المحللة الرئيسية في مركز أوروبي فكري بكوبنهاغن، استدعاء دبلوماسي أميركي على هذا المستوى بأنه حادث نادر للغاية، وأن الاستدعاء بمثابة احتجاج رسمي تُلجأ إليه الدنمارك في حالات استثنائية للدلالة على خطورة الموقف. ولفتت نيسن إلى أن الدنمارك قامت بإجراء مماثل مرة سابقة في السنوات الأخيرة، أيضاً بسبب مسائل متصلة بغرينلاند، بعد تقرير لصحيفة وال ستريت جورنال أشار إلى تكليف أجهزة استخبارات أميركية بجمع معلومات عن حركة الاستقلال وإمكانيات الموارد في الجزيرة.
ماذا ردّت الولايات المتحدة؟
أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بياناً أكدت فيه أن القائم بالأعمال مارك ستروه عقد لقاءات مع مسؤولين من وزارة الخارجية الدنماركية، واصفة المحادثة بأنها بناءة ومعيدة التأكيد على الروابط القوية بين حكومة غرينلاند والولايات المتحدة والدنمارك، وأن واشنطن تحترم «حق شعب غرينلاند في تقرير مستقبله». لكنها رفضت التعليق على مزاعم عن تصرفات مواطنين أميركيين، قائلة إن الحكومة الأميركية لا تتحكم بأفعال المواطنين الخاصين أو توجهها.
ماذا قال ترامب عن غرينلاند؟
يقطن غرينلاند نحو 56 ألف نسمة أغلبهم من شعب الإنويت الأصلي. منذ ولايته الأولى أعرب دونالد ترامب عن رغبة في ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة، بل ألغى زيارة لكوبنهاغن عام 2019 بعدما رفضت الدنمارك عرضه شراء الجزيرة. في فترته الثانية كثّف ترامب تصريحاتٍ عن أهمية السيطرة على غرينلاند، وكتب في ديسمبر 2024 على منصته: «امتلاك والتحكم في غرينلاند ضرورة مطلقة». وردّت عليه حكومة غرينلاند ببيانات حازمة: «غرينلاند لنا. ليست للبيع ولن تكون كذلك».
وفي مناسبات لاحقة، كرر ترامب أن انضمام غرينلاند إلى الولايات المتحدة سيعود بالنفع الكبير على سكانها، ما أثار رفضاً علنياً من قادة الدنمارك وغرينلاند الذين أكدوا مراراً أن الجزيرة ليست للبيع ولا ترغب في الانضمام إلى الولايات المتحدة.
أهمية غرينلاند الاستراتيجية والموارد
تتمتع غرينلاند بموارد معدنية هائلة، بينها معادن الأرض النادرة الضرورية لصناعة البطاريات والمنتجات التكنولوجية المتقدمة؛ حيث أظهر مسح عام 2023 احتواء الجزيرة على عدد كبير من المعادن المصنفة كمصادر خام حيوية من قبل المفوضية الأوروبية. وبالرغم من وجود احتياطيات محتملة للنفط والغاز، فإن مجتمعات السكان الأصليين تعارض استغلالها، لذا يعتمد اقتصاد غرينلاند أساساً على قطاع الصيد. جغرافياً، تقع غرينلاند على أقصر مسار بين أميركا الشمالية وأوروبا، مما يجعلها ذات أهمية عسكرية واستراتيجية، بما في ذلك للنظام الأميركي للتحذير المبكر من الصواريخ الباليستية.
ردود فعل الدنمارك وأوروبا
نفت السلطات الدنماركية وغرينلاندية أي إمكانية لبيع الجزيرة، وردّت بخطوات عملية أيضاً: في ديسمبر أعلنت الدنمارك زيادة الإنفاق الدفاعي في غرينلاند بمقدار 1.5 مليار دولار. كما تُظهر القادة الأوروبيون تضامناً مع كوبنهاغن واعتبروا أن حماية الحدود السيادية مبدأ لا يجوز تجاوزه بالقوة؛ فقد دعا قادة أوروبيون، بعد تصريحات ترامب التي لم تستبعد استخدام القوة، إلى احترام السيادة والحدود الوطنية. زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غرينلاند في يونيو في إظهار تضامن أوروبي واضح، مؤكدًا أن الجزيرة ليست «مسرحاً للتنافس الدولي على حساب سيادتها».
نقاط توتر أخرى بين واشنطن وكوبنهاغن
نشأت توترات إضافية بعد توقف إدارة ترامب مشروعات لطاقة رياح في الولايات المتحدة تعود لشركة أورستد الدنماركية، إذ أوقف مشروع Revolution Wind قبالة ساحل رود آيلاند بعد أن كان إنجاز المشروع قد بلغ نحو 80%، مستشهداً بحماية «الأمن القومي». تراجعت أسهم شركة أورستد بشكل حاد إثر القرار. وأظهر استبيان داخلي في الدنمارك أن نسبة معتبرة من الجمهور تنظر إلى الولايات المتحدة كتهديد محتمل للدنمارك.
موقف سكان غرينلاند من الاستقلال والولايات المتحدة
تولت الدنمارك إدارة غرينلاند من أوائل القرن الثامن عشر حتى منحها حكمًا ذاتياً في 1979، ومنذ 2009 بات لغرينلاند الحق القانوني في استقلالها عبر استفتاء شعبي. تدعم الأحزاب الكبرى في غرينلاند فكرة الاستقلال لكن بتصورات زمنية مختلفة؛ فحزب رئيس الوزراء موته إجيدي يدعم الاستقلال لكن لا يرغب في استعجال العملية، ويريد أن يقرر الغرينلانديون مصيرهم بأنفسهم. أظهر استطلاع صدر في يناير أن حوالي 56% من سكان غرينلاند سيصوّتون لصالح الاستقلال في حال طرحت مسألة الاستفتاء، فيما أعرب 17% عن تردد أو عدم يقين بشأن الخيار.
مع ذلك، لا ثمة دلائل قوية على أن الذين يؤيدون الاستقلال يرغبون في الانضمام للولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه ثمة تاريخ من التوترات مع كوبنهاغن: فقد فصلت الحكومة الدنماركية أطفال إنويت عن عائلاتهم في الخمسينات، وفرضت وسائل منع حمل على آلاف النساء الإنويتية بين ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وأعربت رئيسة الوزراء لاحقاً عن أسفها واعتذرت للنساء اللواتي وُضع لهن جهاز داخل الرحم دون موافقتهن، قائلة إن الأمور لا يمكن تغييرها لكن على الدنمارك أن تتحمل مسؤوليتها وتقدم الاعتذار.