عنوان: انتقام أم إدارة للسلطة؟ كيف يعيد دونالد ترامب تشكيل الرئاسة
عاد دونالد ترامب هذا العام إلى البيت الأبيض متعهداً، من بين أمور أخرى، بالانتقام من خصومه المزعومين. وبعد تسعة أشهر بدأت ملامح هذا العهد — أو التهديد — غير المسبوق تتجلّى عملياً وبسرعة متصاعدة.
لقد شجع ترامب جهاراً وزير العدل على استهداف خصومه السياسيين، واقترح أن تُستخدم سلطات إدارية لسحب تراخيص بث تلفزيونية للضغط على وسائل الإعلام الرئيسية المتّهمة بالتحيّز. كما استهدف مكاتب قانونية يعتبرها مناوئة، فجرّد بعض موظفيها من تصاريح الأمن الحكومية وألغى عقوداً كانت تربطها بالدولة. أسلوبه العلني، الذي يصفه خصومه بالوقاحة، يقلّ في واقع الأمر من حدة المفاجأة حول مدى تعرّض الأعراف الدستورية والقيَم المؤسسية للتآكل.
المطالبة العلنية قبل أسبوع بأن يلاحق مدّعٍ عام مجموعة من الخصوم السياسيين المسميين — خطوة كانت قبل نصف قرن ستثير موجة غضب عابرة للأحزاب وتؤدّي إلى استقالة ريتشارد نيكسون حينها — أصبحت اليوم مجرد نبأ عابر في دورة الأخبار الأسبوعية. وأكثر من ذلك، وتيرة توسيع ترامب لسلطات رئاسة الجمهورية من أجل فرض إرادته تبدو متسارعة.
في خطوة لافتة، وقع ترامب أمراً تنفيذياً يتناول «الإرهاب الداخلي والعنف السياسي»، وصرّح أن هذا الأمر سيسخّر للتحقيق مع «أثرياء» يموّلون ما وصفه بـ«الأناركيين المحترفين والمحرّضين»، ملوحاً بأسماء شخصيات مثل جورج سوروس ورييد هوفمان. وساعات بعد التوقيع أعلن مكتب المدّعي العام بقيادة ترامب توجيه تهم إلى جيمس كومي، مدّير الـ FBI الأسبق والناقد للرئيس، بعدما سبق للرئيس أن وعد بملاحقته وقال إنه «مذنب جداً».
برّرت إدارة ترامب ما تصفه بحملة أشدّ ضدّ مجموعات اليسار استناداً إلى حادثي عنف صادمين حديثين: اغتيال الناشط المحافظ تشارلي كيرك داخل حرم جامعي، وهجوم مسلّح على عملاء الهجرة في دالاس أسفر عن إصابة اثنين من الموقوفين المهاجرين ومقتل ثالث. يقول البيت الأبيض إن هذه الإجراءات واسعة النطاق ضرورية وملحّة لملاحقة المجرمين وأعضاء ما يسمّونه «الدولة العميقة» التي، بحسبهم، حاولت تقويض فترته الأولى.
في رؤية تحالف «ماجا» المؤيد لترامب، يجب مساءلة الإعلام التقليدي بتهمة التحيّز ونشر «الأخبار الكاذبة». أما الشركات الخاصة التي اضعفتها سياسات التنوع أو الفساد السياسي فبحاجة، بحسبهم، إلى يد حكومية حازمة لإعادة ترتيب أوضاعها. ويبرّر الكثير من أنصار ترامب أيضاً ما يُقدَم عليه بالقول إن إدارة بايدن نفسها كانت قد خرقت بعض الأعراف الرئاسية في ولايته السابقة.
المقارنة بين رئاستين
خلال السنوات الأربع التي سبقت عودته، تمت ملاحقة ترامب قانونياً أربع مرّات وأدين في قضية واحدة. وقد وُجّهت تهم إلى عدد من مساعديه المقربين وحُكم على بعضهم بالسجن لاحتقار الكونغرس أو لمشاركتهم المزعومة في محاولات قلب نتائج انتخابات 2020. من جانب آخر، اتّجهت إدارة بايدن خلال جائحة كوفيد إلى مطالبة شركات وسائل التواصل الاجتماعي بالحدّ من خطاب اعتبرته ضاراً، كما سعى بايدن لتوسيع سلطات تنفيذية لتنفيذ سياساته في مجالات مثل إلغاء جزء من ديون طلابية واشتراطات التطعيم وحماية حقوق المتحوّلين جنسياً في المدارس واللوائح البيئية.
قد يقول مؤيدو ترامب إن المعاملة بالمثل أمر مشروع، لكن ثمة فروقاً مهمة: قضايا المحاكمة ضد ترامب اتّخذت طابعاً قضائياً مؤسّساً في كثير من الحالات، وغالباً ما جرت بمبادرات فيدرالية خاصة أو من قبل مدّعين مستقلين؛ بينما بقي بايدن في الغالب متحفظاً على المستوى الخطابي تجاه تلك القضايا. وفي الوقت نفسه، ألغت المحكمة العليا بعض إجراءات بايدن التنفيذية بينما منحت ترامب مساحة عمل واسعة في فترته الحالية.
هذا الإحساس بالاضطهاد استُخدم على نطاق واسع من قبل ترامب لتوطيد رابط عاطفي مع قاعدته الناخبة التي تشارك شعوراً بالظلم تجاه مؤسسات يرى أنها منحازة ضدّهم. وقد يسهّل حكم المحكمة العليا العام الماضي، الذي حدّد نطاق الحصانة الرئاسية عن المسؤوليات الجنائية لأعمال تنفيذية، شعور ترامب بأنه أقلّ تقييداً في ولايته الثانية.
أيديولوجيا الصراع
تستند السياسات والتبريرات في أعلى هرم البيت الأبيض الحالي إلى قناعة مفادها أن أميركا — والحضارة الغربية بأسرها — تواجه تهديداً وجودياً من ثقافة يسارية متطرفة، ومن هجرات جماعية وتجارة عالمية غير متوازنة وتوسّع تدخل الدولة. في خطاب حماسي خلال تأبيني تشارلي كيرك، قال مستشار ترامب القديم ستيفن ميلر إن إرث أميركا «يعود إلى أثينا وروما وفيلادلفيا ومونتيسيلو»، وأضاف: «لا تَدرون مدى إصرارنا على إنقاذ هذه الحضارة… إنقاذ الغرب، إنقاذ هذه الجمهورية».
هذه النظرة تتقاطع بشكل حاد مع نهج بايدن الذي كان يركّز على أن الصراع الرئيسي في عالم اليوم بين الديمقراطية والاستبداد، وأن الدور الأميركي هو إظهار قدرة الديمقراطيات على تلبية حاجات شعوبها في عالم متغير.
هل تتجه الولايات المتحدة نحو السلطوية؟
ينظر منتقدو ترامب اليوم إلى ما يحدث باعتباره أكثر من تخلّ عن خطاب الديمقراطية: يرون فيه دفعاً للأمة نحو منحدر استبدادي. تهمة ذلك ليست قصيرة على شخصيات يسارية فقط؛ فقد عبّر بعض جمهور اليمين أيضاً عن قلقه عندما دُعي رؤساء هيئات تنظيمية لإقناع محطات محلية بقطع برامج تنتقد الرئيس أو مواقفه.
قضايا مثل توجيه ترامب لوزيرة العدل أو للمدّعين العامين بتحريك قضايا محددة ضدّ أشخاص اعتبرهم أعداء شخصية، وتضخيم الانتقام السياسي عبر استبدال فريق تحقيقات بآخر مقرب من الرئيس، كلها أمثلة وضعتها آراء نقدية تحت عنوان «استهداف الخصوم شخصياً». وتضمنت الخريطة أيضاً عمليات تفتيش لمنازل شخصيات محافظة سابقة انتقلت إلى النقد، وتحقيقات إعلامية وأمنية بحق مسؤولين سابقين في إدارات سابقة.
في الجانب الآخر من الخطاب، تُستخدم تنديدات بتحوّل ترامب إلى «هتلر العصر» أو التحذير من بوادر استبداد كتحذيرات مبالغ فيها، ويردّ دونالد ترامب وحلفاؤه بأن ما يجري هو تفاعل طبيعي مع ما يسمّونه انحراف مؤسساتي عن العدالة.
اتساع الخطر العالمي والمحلي
مؤسّسة «أنواع الديمقراطية» بجامعة غوتنبرغ ترى أن موجة التراجع الديمقراطي عالمياً بلغت مستويات غير مسبوقة منذ أواخر السبعينيات، حيث يعيش اليوم نحو 72% من سكان العالم تحت أنظمة لا ديمقراطية. وفي 2024 وحدها، رصدت عشرات الدول تنقّلات نحو مزيد من الأوتوقراطية، مع أنماط متشابهة تتضمّن تقييد حرية التعبير، وضعف استقلال القضاء والمجتمع المدني والميدان الأكاديمي.
وتقول تقارير الجهاز البحثي إن الولايات المتحدة بدأت تظهر مؤشرات «مقلقة» مشابهة: توسيع السلطة التنفيذية، تقويض سلطة الكونغرس على الإنفاق، حملات استهداف للمؤسسات المستقلة والإعلام، وإجراءات تبدو كمساعي لتطهير مؤسسات محلية أو وضعها تحت نفوذ مركزي — وهي استراتيجيات نمطية للانحدار نحو أشكال أكثر تركيزاً للسلطة. أما الصمت الممكن بين المنتقدين، خشية التعرض لردات فعل انتقامية، فصار ظاهرة ملاحَظة.
«أنا انتقامكم»
منذ حملته الانتخابية في 2023 وفي مناسبات جماهيرية، كرّس ترامب فكرة أن عودته ستكون بمثابة «العدل» لمن تأذّوا منه. في تجمع في واكو، تكساس، قال مخاطباً مؤيديه: «أنا محاربكم. أنا عدالتكم. ومن تعرضوا للظلم والخيانة، أنا انتقامكم.» هذه اللغة الصريحة عن الانتقام صارت لافتة متكرّرة في خطاباته، وتبنّاها كجزء من روايته بأن كل إجراء يتخذه موجّه لتصحيح ما اعتبره ظلم الماضي.
هو شخصياً وصف في مناسبات أن «الانتقام أحياناً مبرر»، وأن العدالة تأخذ وقتها، لكنه حرص أيضاً على أن يصيغ بعض الإجراءات بصيغة القانون والشرعية، قائلاً إن ملاحقات مثل قضيّة كومي «عن عدالة لا عن انتقام»، ومع ذلك بدا متوقعاً أن تتبعها خطوات أخرى في المحققين والمدّعين.
خاتمة
ما يحدث اليوم في واشنطن ليس مجرد صراع بين حزبين أو معركة انتخابية؛ إنه إعادة تعريف لحدود ما يجوز للرئيس فعله داخل النظام الدستوري الأميركي. بين من يرى في ذلك تصحيحاً لخرق سابق للعدالة وبين من يقرأه تطوراً باتجاه تآكل الضوابط والمؤسسات، يبقى السؤال الأهم: هل ستمثل هذه الإجراءات استعادة للسلطة أم انقلاباً تدريجياً على قواعد الحكم الديمقراطي نفسها؟ الحسم في الإجابة سيظل رهين مسار هذا الصراع داخل الولايات المتحدة وفي محاكمها ومؤسساتها، كما في ضمير الرأي العام.