لقد كان لويندل بيري أثر لا يُقاس في حياتي — ومن ثم في ممارساتي التدريسية وعاداتي في التعليم — بحيث لا يمكن فصله عن تفكيري حول التعليم والتعلّم. أفكاره عن المقياس والحدود والمساءلة والمجتمع والتفكير المتأني تحتل مكاناً في حوارات أوسع حول الاقتصاد والثقافة والدعوة المهنية، بل وتطال السياسة والدين وكل حيث يتوارى الحسّ السليم.
ولكن ماذا عن التعليم؟
فيما يلي رسالة كتبها بيري ردّاً على دعوةٍ إلى “أسبوع عمل أقصر”. سأترك له الحجّة، لكن قراءتها تثير لديّ تساؤلات عن إمكانية أن يكون لهذا النوع من التفكير موضع في أشكال تعلمية جديدة.
عندما نصرّ، داخل التعليم، على السعي وراء ما يُعدّ «جيداً بديهياً»، فما الذي نفتقده؟ أي: إذا صار الالتزام بممارسات التعلم المبنية على النتائج، مع مطابقة صارمة بين المعايير والأهداف والقياسات، وتخطيط دقيق أفقيّاً وعموديّاً دون «ثغرات» — فما الفرضية الكامنة وراء هذا الإصرار؟ ففي لعبة التعليم العام عالية المخاطر، نحن جميعاً متضامنون حتى النهاية.
وبشكل أكثر مباشرة: هل نُعدّ المتعلّمين لـ «عمل جيد» أم لسلامة أكاديمية فحسب؟ وما هو الدور المفترض للتعليم العام في هذا الصدد؟ لو مال تعليمنا إلى الخيار الأوّل، ما الأدلة التي كنا سنراها في صفوفنا وجامعاتنا؟ وهل العمل الجيد وسلاسة الأداء الأكاديمي متنافِيان بالضرورة؟
ويندل بيري عن «العمل الجيد»
مجلة The Progressive في عدد سبتمبر، عبر ملاحظة محرّرها ماثيو روثشيلد ومقال جون دي غراف («عمل أقل، حياة أكثر») اقترحتا ــ على نحو يقينـي ــ «أسبوع عمل أطول»؟ لا، هما اقترحا أسبوع عمل مدته ثلاثون ساعة كحاجة لا يمكن دحضها، على حدّهما.
مع أنني قد أؤيّد فكرة أسبوع عمل من ثلاثين ساعة في ظروف محددة، إلا أني لا أرى فيها أمراً مطلقاً أو بديهيّاً. لا يمكن طرحها كحاجةٍ عامة إلا بعد التخلي عن أي احترام حقيقي لـ«الدعوة المهنية» واستبدال الخطاب بشعارات فارغة.
إن صناعية الإنتاج والخدمات قد ملأت العالم بوظائفٍ فارغة المعنى، مُهينة، ومملّة — وفي كثير من الأحيان مدمّرة بطبيعتها. لا أعتقد بوجود حجة مقنعة لوجود مثل هذه الأعمال، وأتمنى زوالها، لكن تقليصها يتطلب تغييرات اقتصادية لم تُحدَّد بعد، ناهيك عن أن تكون مطروحة جدياً من اليسار أو اليمين. حتى الآن، ما أعلم، لم يقدّم أي طرف تمييزاً موثوقاً بين العمل الجيد والعمل الرديء. تقصير «أسبوع العمل الرسمي» مع التسليم باستمرار العمل الرديء ليس حلاً ذا قيمة كبيرة.
الفكرة القديمة الشريفة لـ«الدعوة المهنية» تعني ببساطة أننا مُدعون، إما من قِبَل الله أو عبر مواهبنا أو تفضيلاتنا، إلى نوع من العمل الجيد الذي نلائمُه بوجه خاص. وما يتضمنه هذا التصور هو الاحتمال المدهش بأننا قد نعمل عن طيب خاطر، وأنه لا توجد بالضرورة تعارضات جوهرية بين العمل والسعادة أو الرضا.
فقط في غياب فكرة قابلة للحياة عن الدعوة أو العمل الجيد يمكن لأحدٍ أن يفصل كما في عبارات «عمل أقل، حياة أكثر» أو «توازن العمل والحياة» كما لو أن المرء ينتقل يومياً من «الحياة هنا» إلى «العمل هناك».
أوليس كذلك أننا نعيش حتى ونحن في أحلك ساعات عملنا المزرية والمؤذية؟
أليس هذا بالذات سبب اعتراضنا (عندما نعترض) على العمل الرديء؟
وإن كنت مُدعوّاً للموسيقى أو الفلاحة أو النجارة أو الشفاء، وإن كنت تكسب عيشك بدعوتك، وإن وظّفت مهاراتك لغاية حسنة وأنت راضٍ أو سعيد بعملك، فلماذا يجب أن تقلّل منه بالضرورة؟ والأهم لماذا تعتبر حياتك منفصلة عنه؟ ولماذا لا تحتجّ على قرار رسمي يأمرك بالحدّ من عملك؟
خطاب مفيد حول العمل ينبغي أن يطرح عدداً من الأسئلة التي غفل عنها السيد دي غراف:
– عن أي عمل نتكلّم؟
– هل اخترت عملك، أم أنك تمارسه قسراً لكسب المال؟
– كمّاً وكيفية مشاركة ذكائك ومودتك ومهارتك واعتزازك بعملك؟
– هل تحترم المنتج أو الخدمة الناتجة عن عملك؟
– لمَن تعمل: لمدير، لرئيس، أم لنفسك؟
– ما التكاليف البيئية والاجتماعية لعملك؟
إن غياب هذه الأسئلة يحجب عيوننا عن الافتراضات التي يقوم عليها كلام السيد دي غراف وخبرائه حول العمل والحياة: أن كل الأعمال سيئة؛ وأن كل العمال بائسون وعاجزون أمام أصحاب العمل؛ وأن العمل والحياة لا يلتقيان؛ وأن الحل الوحيد للعمل الرديء هو تقصير أسبوع العمل وتقسيم الرداءة على عددٍ أكبر من الناس.
لا أظنُّ لأحد أن يعترض بشرف على مبدأ «تقليل الساعات بدلاً من تسريح العمال» من حيث النظرية؛ لكن هذا يثير احتمال انخفاض الدخل ومن ثم تقليل «الحياة». وكعلاج، لا يملك السيد دي غراف سوى «إعانات البطالة»، وهي من بين أقوى شباك الأمان في الاقتصاد الصناعي وهشّته.
وماذا سيفعل الناس بـ«الحياة الإضافية» المترتبة على «عملٍ أقل»؟ يقول السيد دي غراف إنهم «سيلتزمون بمزيدٍ من التمرين، سينامون أكثر، سيزرعون أكثر، سيقضون وقتاً أكثر مع الأصدقاء والعائلة، ويقودون أقل». هذه الرؤية السرّية مستمدة من افتراضات سابقة مفادها أنه في الوقت الفائض المكتسب عبر أجهزة «توفير العمل» سيلجأ الناس إلى المكتبات والمتاحف والأوركسترات.
لكن ماذا لو قاد المحرّرون وقت الفراغ مركباتٍ أكثر؟
ماذا إن أمضوا أوقاتهم في الترفيه عبر مركباتٍ وبركٍ سريعة، طعامٍ سريع، ألعاب كمبيوتر، تلفاز، «اتصالاتٍ إلكترونية»، وأنواعٍ متعددة من المواد الإباحية؟
حسناً، سيُعدّ ذلك «حياة» بحسب التصور، وكل شيء أفضل من العمل!
يزيد السيد دي غراف افتراضاً مشكوكا فيه بأن العمل كمية ثابتة، متاحة بثقة، وقابلة للتقسيم إلى حصص كافية دائماً. ذلك يفترض أن من بين أغراض الاقتصاد الصناعي توفير العمل للناس. في الواقع، كان من أغراض هذا الاقتصاد دوماً تحويل الفلاّحين المستقلين والتجار والحرفيين إلى موظفين، ثم استغلال هؤلاء الموظفين بأرخص ما يمكن، ثم استبدالهم في أسرع وقتٍ ممكن ببدائل تكنولوجية.
وبناءً عليه، قد تكون هناك ساعات عمل أقل للتقاسم، وعدد أكبر من العمال الذين يجب توزيعها بينهم، وأقلّ من إعانات البطالة لسد الفجوات.
ومن جهة أخرى، هناك كثير من الأعمال التي يجب إنجازها — استعادة النظم البيئية والمجاري المائية، تحسين شبكات النقل، إنتاج طعامٍ أكثر صحّة وأماناً، حفظ التربة، وغيرها — التي لم يُدفع ثمنها بعد. عاجلاً أم آجلاً، لا بد من إنجاز مثل هذا العمل.
قد ننتهي بنا الحال نعمل أياماً أطول ليس لنعيش، بل لننجو.
وندل بيري
بورت رويال، كنتاكي
نُشِر نص رسالة السيد بيري أصلاً في مجلة The Progressive (نوفمبر 2010) ردّاً على المقال «عمل أقل، حياة أكثر» ونُشرت الحكاية الأصلية على موقع Utne.