بيروت، لبنان — ينتظران مبتسمين بمكر، وعيونهما تتلألأ عند رؤيتهما دفاتر ملفوفة عليها صورة الرجل العنكبوت.
علي، الأجرأ رغم أنه لم يتجاوز الثالثة من عمره، يمزق غلاف دفتره فوراً بيديه الصغيرتين.
قائمة قصص موصى بها
عمر، الذي في السادسة من عمره، يكافح بمغلف البلاستيك بيد واحدة، ووجناته تحترقان من خجل طفولي. بلا تردد، يمد علي يده، يقشر الغلاف ويضع الدفتر في حضن عمر.
قريباً سيحصل عمر على طرف صناعي كما لدى علي، وستعود الطقوس الصغيرة للطفولة—مثل فتح هدية—إلى عالم ممكن.
الولدان ليسا إخوة، ومع ذلك يعيشان كأنهما كذلك.
في حيّ الحمراء الصاخب في بيروت، حيث تخنق السيارات الشوارع وتتلألأ مياه المتوسط خلف الفنادق، يتشاركان بناية سكنية واحدة وجروحاً متشابهة.
كلاهما انتُشل من تحت الأنقاض. كلاهما كان الناجي الوحيد من عائلته، وكلاهما فقد يدهما بتفجير إسرائيلي.
منذ أن كانا يقطنان مئات الأميال بين بعضهما، أصبح عمر أبو كويك من غزة وعلي خليفة من جنوب لبنان مثالاً لضحايا الحرب الإسرائيلية على الأطفال.
يعيشان برعاية عمّاتهما؛ مها التي خرجت بعمر من غزة واضطرت لترك أولادها المراهقين خلفها، وصبحية التي لم تنجب قط وتعهدت بتربية علي بعدما قضت الغارة على بقية عائلتها.
الآن ينادون عمّاتهم «ماما».
«الذكريات قبل ما حدث مؤلمة جداً»، قالت مها. «إنهم يريدون فقط أن ينسوا».
«علي يسأل إن كان والداه لا يزالان يراه»
منزل عائلة خليفة في صرَفند جنوب لبنان كان منزلًا مكوَّناً من ثلاث طبقات يعجّ بالأطفال في السابق.
«كنا نخرج لنأكل الآيس كريم ونتسامر نهاراً»، استذكرت صبحية. «صباح ذلك اليوم كان هادئاً». وصفت استيقاظها وخروجها مبكراً في التاسع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2024. بحلول الساعة الثامنة والربع صباحاً، أصاب قذيفة إسرائيلية المكان فجأة؛ كانت قريبة جداً حتى شعرت بها وهي تقود.
عمل المنقذون طوال النهار يحفرون بين الخرسانة والفولاذ. سيارة المعدات ذاهبة عائدة، لكن مع حلول الظلام لم يكن هناك أثر للحياة.
بعد أربع عشرة ساعة من القصف، وجدوا علي البالغ عامين تحت طابقين من الأنقاض؛ جسده الصغير هزيل، يده مبتورة، وتنفسه ضعيف لكنه لا يزال حياً. بقي فاقد الوعي أسبوعاً محفوظاً بالأوكسجين. كانت صبحية تغسل جثث القتلى عندما علمت أنه نجا.
عندما أشرق بصره أخيراً، مد يده نحو والديه، لكنهما قد قُتلا مع ثلاثة عشر من أفراد عائلته.
«سألني إن كان والديه ما زالا يريانَه»، تذكرت صبحية. «أخبرته أنهما يراقبانه طوال الوقت. سيظلا يريانك، لكن أنت لا تستطيع رؤيتهما.» (ملاحظة: الجملة الأخيرة وردت بصيغة بسيطة لتسهيل الفهم.)
يلعب علي بيده الصناعية. زال ضحك هدايا الصباح وحلت محله قلق يخيّم على الغرفة. ينادي «ماما» بين جمل عمّته، يسحب كمّها محاولاً لفت نظرها.
عندما لا ترفع عيناها، يرتفع صوته إلى بكاء. «له شخصية قوية»، تقول عمّته بنصف ابتسامة. «والطبيب قال إن هذه الشخصية هي ما أبقاه حياً.»
في ذلك الشهر، تصاعدت حرب إسرائيل مع حزب الله من تبادل صواريخ عبر الحدود إلى قصف إسرائيلي مكثف لجنوب لبنان والعاصمة.
وبحلول وقف إطلاق النار، كانت إسرائيل قد قتلت أكثر من أربعة آلاف شخص وأصابت نحو سبعة عشر ألفاً. من بينهم ما لا يقل عن مئتي طفل قُتلوا، وما يقارب سبعمائة طفل آخر جُرحوا. ورغم الهدنة، استمر إطلاق النار عبر الحدود.
عمر هو الناجي الوحيد
عالج الدكتور غسان أبو سِتّة، الجرّاح الفلسطيني-البريطاني، علي في لبنان وساعَد على تأمين رعايته عبر صندوق غسان أبو سِتّة للأطفال، المؤسسة الخيرية التي أسّسها. اعتنى الصندوق بنحو مئة وثمانين طفلاً، بينهم تسعة عشر طفلاً فلسطينياً من غزة ومئة وثمانية وخمسون لبنانياً، كلهم يحملون آثار قنابل إسرائيل؛ بعضهم فقد أطرافاً، وآخرون يعانون حروقاً أو إصابات دماغية أو ندوب نتيجة نيران القناصة، أو صواريخ الدبابات والمدفعية.
تلقى عمر أبو كويك من غزة، البالغ ست سنوات، علاجاً غير مكتمل في الولايات المتحدة واضطر لإعادة تركيب طرف صناعي جديد في بيروت.
بعضهم أيتام، وآخرون لديهم أقارب ما زالوا في غزة أو جنوب لبنان. يحصلون جميعاً على سكن ورعاية طبية ودعماً نفسياً، غالباً بعد نجاة من معبر رفح إلى مصر مع أحد أفراد الأسرة.
عمر واحد من بين تسعة عشر طفلاً فلسطينياً ساعدهم الصندوق.
«بعد عشرة أيام من بدء الحرب طُلب منا إخلاء المبنى»، استذكرت مها. «ذهب عمر إلى منزل عائلة أمه في الزهراء، على بعد خمسة عشر دقيقة من حيث كنت أقيم».
في صباح السادس من ديسمبر/كانون الأول 2023، سقط الصاروخ الأول. سمعت مها دويّه من منزلها. «تسمع هذه الأصوات كثيراً لأن القصف شديد جداً»، قالت. «لكن هذه المرّة كان الأمر مختلفاً».
كان منزل عائلة كُويك مكوَّناً من أربع طبقات. «كانت العائلة تتناول الإفطار في جانب من البيت، وكان عمار خارجاً يركب دراجته. عندما أصاب القصف، طار—وهنا أصيبت يده.»
عندما وصل المنقذون إلى الركام، لم يبقَ سوى طفل واحد على قيد الحياة. «كان في المبنى خمسة عشر شخصاً»، قالت مها. «وكان عمر الناجي الوحيد.»
الآن يجلس بهدوء في الزاوية. خرج علي مع عمّته، فيراقب عمر المكان الذي كان يجلس فيه صديقه. الغرفة أصبحت أكثر فراغاً بغياب صوته. تتحدث مها بصوت منخفض، وكأن كلماتها قد توقظ شيئاً هشّاً.
تشرح كيف أدخلته على قائمة الإخلاء الطبي وعبروا رفح إلى مستشفى مصري، حيث تمكنت من التقديم له للسفر إلى الولايات المتحدة لإجراء جراحة وتركيب طرف صناعي.
لكن علاجه لم يُستكمل هناك، وعادوا إلى مصر دون تركيب مناسب أو جلسات تأهيل فيزيائي. ثم اكتشفت مها صندوق غسان أبو سِتّة وتمكنت من التقدّم لتمويل علاج عمر لإكماله، إذ كان بحاجة إلى طرف اصطناعي كامل وبرامج علاج طبيعي تمكّنه من استخدامه.
تركت وراءها أولادها الثلاثة المراهقين في غزة لكي تحافظ على حياته.
عند اسم الطبيب يضيء وجه عمر؛ فبفضل د. أبو سِتّة سيحصل قريباً على ذراع جديدة.
هجمات «آلة الإبادة» على الرعاية الصحية
قضى أبو سِتّة معظم حياته متنقلاً بين فلسطين وخارجها. دخل غزة للمرة الأولى عام 1989 طالباً طباً شابّاً خلال الانتفاضة الأولى، وعاد في الانتفاضة الثانية ثم في أعوام 2008–2009 و2012 و2014، وأيضاً خلال مسيرات العودة الكبرى في 2018. وعندما بدأت حملة القصف الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023 عبر الحدود مرة أخرى.
آية عبد الكريم سُمَد، طفلة في السابعة من عمرها، فُقد ساقها بعد إصابتها بقذيفة دبابات دخلت غرفتها حيث كانت تختبئ مع أختها الرضيعة تحت بطانية.
في مستشفى الشفاء عمل مع أطباء بلا حدود ولاحقاً في الأهلي لأربعينَ وخمسة وأربعين يوماً متواصلة، مجرّحاً ومخيطاً أطفالاً ونساءً ورجالاً مزَّقهم القصف والمدفعية الإسرائيلية، وكل ذلك وهو نفسه يتعرّض لقصف مستمر.
ممنوع الآن من دخول غزة ثانيةً من قبل إسرائيل، سافر إلى لاهاي وقدم شهادته أمام المحكمه الجنائية الدولية؛ ووجد المحققون لاحقاً ما يشكل قضية معقولة لإثبات إبادة بحق رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت.
في ديسمبر 2023 أنشأ صندوقاً في بيروت لرعاية الأطفال الفلسطينيين واللبنانيين. وبالتعاون مع منظمات غير حكومية وأطباء في الميدان، يحدد الصندوق الحالات الأشد حاجة، وينقل الأطفال إلى بيروت لإجراء الجراحات في المستشفى الجامعي الأميركي في بيروت، ويسكنهم مع ذويهم في شقق أثناء التعافي. تُوفَّر للعائلات سنة كاملة من الإقامة إلى جانب خدمات اجتماعية ورعاية نفسية قبل العودة إلى منازلهم.
«عندما يتعرّض الأطفال للإصابة في الحرب، لا تُصاب أجسادهم فحسب،» قال أبو سِتّة. «إنهم جرحى عاطفياً واجتماعياً ووجودياً. تتغيّر منظومتهم الكاملة تجاه العالم. سيحتاجون لرعاية مدى الحياة.»
وأوضح أنّ أكثر إصابة شيوعاً في لبنان هي إصابات الدماغ الرضية، أما في غزة فالغالبية من الإصابات هي بتر الأطراف. «أطفال كان من الممكن أن يحتفظوا بأطرافهم لو أُجرِيت لهم جراحات مناسبة، فباتوا الآن محرومين منها.»
من بين خمسة أطباء قلب في غزة بقي اثنان فقط، يقول أبو سِتّة. واختفى أخصائيو الكلى، وقُتِل كل طبيب طوارئ حاصل على شهادة تخصص.
من مجموع مرافق الرعاية الصحية في القطاع، تضررت أو دُمِّرت 94 في المئة بفعل إسرائيل. وسجلت منظمة الصحة العالمية ما لا يقل عن 735 هجوماً على البنية الصحية بين أكتوبر 2023 ويونيو 2025.
«هذا جزء من جعل غزة غير صالحة للسكن،» قال أبو سِتّة. «إنه يجعل آلة الإبادة أكثر تحملاً.»
يأمل الصندوق الآن في إجلاء 30 طفلاً فلسطينياً إضافياً من غزة بمساعدة منظمة الصحة العالمية. «نعرف من هم الأطفال،» يقول. «نستخرج لهم جوازات سفر… لم يكن لدى بعضهم وثائق، فقد عاشوا معظم حياتهم تحت القصف.»
لكن إسرائيل تمنع مرورهم، بحسب قوله، تاركة 30 طفلاً مصاباً بحاجة إلى رعاية قد تضمن لهم الحياة. وبالاجمالي، ينتظر 15,600 مريض، منهم 3,800 طفل، الإجلاء الطبي من غزة لتلقّي علاج ينقذ حياتهم خارج القطاع، وفق منظمة الصحة العالمية.
«الأطفال مستهدفون تماماً،» قال أبو سِتّة. «كل شيء هدف: الأطفال، المباني، الرعاية الصحية، الصحفيون. كل شيء.»
الاستيقاظ وهو يصرخ
يعود علي إلى الغرفة الصغيرة المشغولة، غير مكترث بالهمسات البالغة. يلتقي الصبيان بنظرات بعضهم، فيبتسمون كأنهم يتقاسمون نكتة سرية لا يفهمها الكبار.
تذكر مها، عمة عمر، الليالي التي لم يستطع فيها النوم: «كان ينام ساعتين ثم يستيقظ وهو يصرخ. كان يخاف النوم. كان يظن أنه لن يستيقظ أبداً.»
كانت تحاول أن تريه صور والدَيْه لكنه كان يَصرف بصره. ولا يزال علي ينادي والدَيْه، تضيف صبحيّة.
تعترف النساء، المثقلات بثقل الحزن والمسؤولية، بأنهن يجدن صعوبة في إيجاد الكلمات التي تُثبّط تمايل الأطفال.
زوج مها وأطفالها الثلاثة المراهقون ما زالوا في رفح، نازحين في مخيم قرب البحر. ومع ضربات إسرائيل لمناطق تصفها بأنها «مناطق آمنة»، تعلم مها أنها قد لا تراهم مجدداً.
ملّت الصبيان الآن من حزن البالغين فعادوا إلى دفاترهم؛ يخط علي على صورة سبايدرمان في دفتره.
بدأ عمر ينام بشكل أفضل في بيروت، تقول مها، لكنه لا يزال يحلم بماضٍ لم يعد موجوداً. في دفتره الجديد يرسم غزة التي حفرتها ذاكرته: أشجار الزيتون، الفراشات، والطيور التي كانت ترتاح في حديقته.
«يأمل أن يعود يوماً،» تقول مها. «إلى روضته، إلى أصدقائه — كما لو لم يحدث شيء.»
«كما لو أن الحرب لم تأخذ كل شيء.» يبدو أنك لم تقدبم نصًا لترجمته. الرجاء لصق أو كتابة النص الذي تريد إعادة صياغته وترجمته إلى العربية.