خان يونس، قطاع غزة — لأول مرة منذ زمن طويل تستطيع الفلسطينية وئام المصري أن تميّز بكاء رضيعها سامح بوضوح؛ الطفل الذي لم يتجاوز بعد الشهرين. أنينه الرقيق يعلو في هواء المواصى الهادئ في جنوب خان يونس، بعد ساعات من اتفاق بين إسرائيل وحماس على المرحلة الأولى من خطة السلام التي توسط فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء حرب غزة — اتفاق أوقف إلى حد بعيد الغارات الجوية وقصف المدفعية وأدخل هدوءاً غير مألوف.
بعد عامين من الحرب التي أودت بحياة أكثر من 67,190 شخصاً — هجوم وصفته الأمم المتحدة بأنه إبادة جماعية — بدأ أهل غزة يحتفلون بالصمت الذي طال انتظارهم له. التَّهدئة خفّفت بشكل كبير من القصف المستمر وزمجرة الطائرات الحربية التي سيطرت على السماء منذ 2023، رغم أن إسرائيل نفّذت بعض الهجمات التي أوقعت على الأقل 29 قتيلاً يوم الخميس، خصوصاً في مدينة غزة.
داخل خيمة بالية تقيم فيها منذ خمسة أشهر مع ولدها الكبير وزوجها ووالدي زوجها، تستمع وئام إلى هبوب نسيم البحر وهو يذيب قماش الخيمة. تقول بهدوء: “أخيراً لم يعد صوت البحر يُغرقه ضجيج الحرب. هذا الهدوء نعمة لا يدركها إلا من استمع لزئير الموت عامين متواصلين.”
أُجبرت عائلتها على الفرار إلى المواصى بعد أن دمر الاحتلال شقّة زوجها في مدينة غزة، قبل ستة أشهر فقط من زواجهما في نوفمبر 2024. كانت وئام، البالغة من العمر 24 عاماً، تدرس الصيدلة في جامعة فلسطين قبل أن يدمر الحرب حرمها الجامعي وتجبرها على الانقطاع عن الدراسة.
تضع أذنها على صدر الطفل، مشيرة إلى السكون من حولها — لا انفجارات، لا طائرات هدّاية تزأر. من مسافة تقدر بنحو 400 م تسمع تلاطم أمواج شاطئ غزة بلطف، صوت كان مخنوقاً بصخب القصف.
صوت “الزنانة”
“منذ ولادته لم أفارق جانبه أبداً،” تستذكر وئام. “لم أكن أسمع بكاءه فوق صوت القذائف أو الطائرات المسيرة. أكثر ما كان يرعبنا الرباعيات التي كانت تمر بين الخيام وتدخل بينها — مرة حلّق واحد فوقنا مباشرة.”
الطائرة الرباعية الصغيرة هي طائرة من دون طيار مزودة بكاميرا تستخدمها إسرائيل على نطاق واسع للمراقبة في غزة والضفة الغربية المحتلة. تصدر زمجرة مميزة مستمرة يسميها الفلسطينيون “الزنانة” — أي الطائرة المزنبلة (أو الطنانة) — صوتاً جعل الأيام تفقد طعمها.
تبتسم بخفوت: “الآن أسمع تغريد الطيور في النخيل، وصوت البحر، وبكاء طفلي — أصوات حُرمت منها من قبل.”
كدَّت أن تفقد عقلها من الخوف، تقول وئام بصفتها أمّاً مرضعة: “بكاء ابني يريحني. الرعب الحقيقي كان عندما تقدمت الدبابات نحو المواصى — ثلاث مرات على الأقل — أو حين حلّق طائرة مسيرة بقرب شديد ظننا أنها ستضربنا.”
تتوقف ثم تضيف: “والزنانة كانت الأسوأ. لا تسمع غيرها؛ ليست مجرد مراقبة، إنها حرب نفسية تهدف إلى تفكيكنا.”
تحلم بالعودة إلى ركام بيتها. “أصوات الحرب لم تكن مجرد ضجيج، بل خوف دائم — كل هدير قد يتحوّل إلى موت في ثانية. اليوم، وبعد ساعات من الهدنة، الفرق شاسع. نستطيع أن نسمع بعضنا أخيراً.”
خلال الحرب كثيراً ما كانت تشغّل تسجيلات للقرآن لتهدئة طفلها ونفسها. “كل صوت حولنا كان يعني الموت،” تقول بهدوء. “كنا بالكاد نحتمل من الخوف. تخيل أن تعيش محاطاً بضجيج الهدم المتواصل — تشعر أن الموت يتنفس جنبك.”
ذكريات الفقدان
أقسى صوت لا تزال وئام تذكره حدث بعد 36 يوماً من اندلاع الحرب، عندما ضربت غارات منزل عائلتها الممتدة بينما كانت واقفة أمتاراً معدودة تزور عمّتها. أسفر الانفجار عن مقتل ستة من أخوتها وزوجة والدها وابنة أخيها، وإصابة آخرين بينهم توأمها وسام.
“كان صوتاً لا يُمحى من الذاكرة،” تقول وئام. “مجزرة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. الحمد لله توقفت الحرب — ولو مؤقتاً — لكي لا تتكرر تلك الانفجارات والمجازر.”
ليس بعيداً في المواصى بالكاد يصدق أحمد الحِسيّ، 73 عاماً، هذا الصمت. “عشنا بصوت الموت يطارِدنا ليلاً ونهاراً،” يمزح مع أبنائه وأحفاده. “سيأخذ الأمر وقتاً حتى نعتاد على السلام.”
هو أب لثمانية أولاد — الأكبر محمود في الخمسين والأصغر شعبان في الثامنة والعشرين. ابنه خالد (34 عاماً) قُتل في 8 نوفمبر 2023 بقذيفة بحرية إسرائيلية قرب ميناء الصيادين؛ وزوجته ثريا (30 عاماً) قُتلت بعد أيام حين ضربت شقّة مجاورة.
يجلس أحمد الآن داخل خيمة مستعارة محاطاً ببعض أبنائه وأحفاده — من بينهم أحمد (13)، غزة (11)، وشوق (3) — أبناء ابنه الراحل. نجا هؤلاء لأنهم كانوا يلعبون في الطابق الأول حينما استهدِف الطابق الثالث حيث كانت تقف والدتهم.
“أصوات الحرب كانت لا تُحتمل،” يقول. “أحياناً كنا ننتفض من السرير عند الصدمات، نضمّ الأطفال وهم يرتعشون بلا توقف. تلك الأصوات كانت بشائر موت. لهذا اليوم يبدو كأنه غير حقيقي.”
وبينما يصلح شباك صيد مشدوداً بين ركبتيه يضيف: “حتى الآن، يرتعد أحفادي لأقل صوت — إذا صفقت بيدي يبكون. هنا، كل صوت يحمل معنى. يعني بقاء أو موت.”
ينظر إلى البحر: “غداً سأعود إلى الصيد. سنسمع النوارس وبائعين مخيم الشاطئ مرة أخرى، لا عزاء ولا هدير دبابات. غزة تتحول من أصوات الموت إلى أصوات الحياة.”
أوانٍ فارغة وجوع صامت
في شمال المواصى، تفيق الحياة على تفاصيلها اليومية: توفيق النجّالي، 40 عاماً، يعمل متطوعاً مشرفاً في مخيم للعائلات النازحة. يكشط آخر حبات أرز من قدر كبير تبرع به أحد الجمعيات المحلية ليضعها في إناء بلاستيكي لطفل جائع يتشبث بساقه. انشغاله اليومي محاولة لإطعام من استطاعوا، بينما يظل عدد الجائعين أكبر مما يمكن أن يصل إليه. يتبدّى على وجهه أثر الإرهاق والحزن.
يقول إن صوت قدرٍ فارغٍ يخدش قعره، اذا بالنسبة له «مؤلم كأنفجار».
يشرح: «عندما تضرب الملعقه قاع القدر، أعلم أن هناك عائلات لن تأكل الليلة. الحرب فرضت علينا أصواتًا كثيرة — المرعبة مثل الطائرات والقنابل، لكن أيضًا الأصوات الممزقة للقلب: الأواني الخاوية وبكاء الأطفال من الجوع».
في كل مرة يسمع ذلك الصوت يعتصر الحزن صدره. «ترى الكبار والصغار يلوذون باليأس، بعضهم يبتلع دموعه. أبتهل ألا أسمع ذلك الصوت — ولا صراخ الأطفال — مجددًا».
مُهجَّر من شمال خان يونس منذ خمسة أشهر، يأمل توفيق أن تجلب الهدنة ليس فقط سكوت السماء بل أيضًا طعامًا وماء ودواء.
«ستتوقف الحرب حقًا»، يقول، «عندما تخفت صيحات الجياع والمرضى — عندما لا نسمع نحيبًا ولا طائرات، بل السلام وحده».
نُشر هذا المقال بالتعاون مع إيجاب.