دمشق، سورية — قضى فؤاد نعل واحدًا وعشرين عامًا في سجون نظام بشار الأسد. ظل محتجزًا في سجنَي صيدنايا والعدل حتى الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، وهو اليوم الذي اعتبره ليس تحرره فقط، بل تحرر سوريا من حكم الأسد، كما قال للجزيرة قبل يوم من ذكرى الحدث.
طويل القامة، نحيف، بلحيةٍ خليطةٍ من رماد الملح والفلفل، نعل (52 عامًا) يتكلم بحماس ويتحرك بسهولة مفاجئة رغم سنوات الحبس الطويلة. كان إمامًا يعمل قبل اعتقاله، ويحافظ على دينه بتعاضد واضح، كما يروي في صالون شقته المتواضعة بحي المهاجرين بدمشق، على بعد عشر دقائق سيرًا من مقر إقامة الأسد السابق.
«غدًا سأخرج»
في الثامن من ديسمبر احتفلت سوريا بالذكرى الأولى لهروب بشار الأسد إلى موسكو، فكان فراره نهاية عقدين وخمسين سنة من حكم عائلة الأسد، الحافل بالقسوة والبطش. مئات الآلاف اختفوا في شبكة السجون، وآلاف أكثر عانوا ظروفًا وحشية تركتهم بإصابات جسدية أو أوجاع نفسية ومشكلات صحية مزمنة.
روى نعل أنه استُدعي إلى أجهزة النظام «مئات المرات» قبل اعتقاله عام 2004، بعد أن أصدر فتوى تقول إن على السوريين ألا يذهبوا للقتال ضد غزو الولايات المتحدة للعراق. كان هو وغيره يعتقدون أن الدولة تشجّع الشباب على الذهاب إلى العراق، وبأن الحافلات التي أُعِدَّت لعبور الحدود قُصفت قبل أن تغادر الأراضي السورية. اشتبه نعل بأن الدولة وراء تلك الغارة، فأصدر الفتوى.
اعتقل مع زوجته وابنته ذات الأربع سنوات وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهمٍ اختُلِقت، منها التخطيط لاغتيال بشار الأسد وشخصيات نظامية بارزة. اعترف بتلك التهم تحت التعذيب لإطلاق سراح ابنته وزوجته، ثم نُقل إلى صيدنايا، حيث صار يعرف لاحقًا بـ«السجن الأحمر». أمضى وقته يمارس الرياضة، ويقرأ، ويدرس الحقوق. بعد عام كامل أُتيح له استقبال زيارات شهرية.
كانت ظروف صيدنايا قاسية؛ يذكر أنه عانى التهابًا في جفنه وحُرم من الدواء، كما مُنع النزلاء من الصلاة جماعة أو تلاوة القرآن معًا. ومع ذلك لم يفقد الأمل: «كنت أحزم حقيبتي كل يوم، مستعدًا للانطلاق». «كنت دائمًا أقول: غدًا سأخرج».
انطلاق الثورة
بعد سبع سنوات في صيدنايا اندلعت الانتفاضة السورية. كان النزلاء يتابعون ثورات تونس ومصر وليبيا دون توقع أن يمتد الأمر إلى سوريا. «كان أمرًا مفاجئًا حقًا أن يحدث هذا في سوريا»، يقول نعل، مضيفًا أن بدايات الثورة كانت لحظات من الفرح والبهجة.
في 2012 نُقِل من صيدنايا إلى سجن عدرا المركزي على الأطراف الشمالية الشرقية لدمشق، حيث وُضع مع نزلاء آخرين في جناح سياسي خاص يمكنهم فيه الصلاة وتلقّي زيارات أسبوعية أتاحَت لهم معرفة أخبار الخارج. ومع أول شهر من الزيارات انتشرت الهواتف بين السجناء، «كان لدى الجميع هاتف أو اثنان».
خافت إدارة السجن من السمعة التي لحقَت بهؤلاء، حتى أن ضابط شرطة يدعى خضر اقترب منه ذات يوم مستفسرًا، ثم انشق وانضم إلى المعارضة لاحقًا. سأله خضر ما إذا كان صحيحًا أنهم يقطعون رؤوس الضباط في صيدنايا ويلعبون بها كرة — إشاعةٌ انتشرت وأرهبت الناس.
«يا حيوانات! افتحوا الأبواب!»
في السابع من ديسمبر 2024 علم هو وزملاؤه أن قوى مناهضة للأسد تتقدم. ساد التوتر والحماس بين النزلاء، واقترح بعضهم محاولة الفرار أو كسر الأقفاص. استيقظ مبكرًا على رائحة القهوة، ورنَّ جرس نداءٍ فلم يَجب أحد. وبعد أن باءت كل المحاولات بالفشل، ابتدأ في السباب لجَلْب رد فعل من الحراس: «يا حيوانات! افتحوا الأبواب!»
أحد السجناء الذي رأى من الشباك أن الحراس اصطفوا وبدأوا يغادرون أخبر الباقين، فما لبثت الهتافات «الله أكبر» أن تعلـت. انقسم السجناء بين من أصابهم رهابُ ما قد يحدث فطالبوا بالإبقاء على الأبواب مغلقة، وبين من قرروا الخروج بالقوة وكسر الأبواب بأنفسهم. عند الخروج وجدوا بزّات الحرس مبعثرة وأُودِعوا في مخزن الأسلحة. «أطلق الناس النار في الجو فرحًا».
ابتعدوا عن السجن حتى وصلوا إلى حاجز مهجور وجدوا عنده إبريق ماتيه يغلي على نارٍ خفيفة وبزّات مهجورة وبنادق ملقاة على الأرض. وفي طريقيِهم التقى بعض الجنود الذين نزَعوا أكتاف بزّاتهم لكنهم أبقوا سراويلهم، ولم يطلقوا عليهم النار، بل قالوا: «نحن معكم، نحن معكم». وصف نعل ذلك الشعور بأنه كان هبة إلهية: حتى من لا يؤمن بالله سيشعر بأن هناك قوة فوقه.
سجن موازٍ للأسد في منفاه
خرج نعل من السجن أفضل بدنيًا من كثيرين أمضوا فترات أقصر في نفس النظام: «كنت أتمرن يوميًا في السجن»، يقول. ثم صحح نفسه بابتسامة: «عمري واحد وخمسون… لا، اثنان وخمسون، لكني لا زلت أدرك نفسي بعمرِ الذي خرجت فيه من السجن». لكنه لم يخرج بلا أثر؛ يشير إلى باب الغرفة الصغيرة أثناء مقابلته: «لا أحب الأماكن المغلقة. لا أحبها عمومًا، لكنني لا أتعرض لانهيار نفسي»، ثم يضيف: «لا أريد النوم بباب مغلق. لست منزعجًا، لكن أفضّل أن يبقى مفتوحًا».
كثير من زملائه وجدوا صعوبة في النوم بعد الفرار لأنهم تعودوا على السكون داخل الجدران. وقبل أيام من هذه المقابلة زار نعل مجددًا صيدنايا مع مجموعة من سوريين وأوكرانيين؛ كانت زيارة عاطفية لكنه رأى أهميتها في مسعى العدالة للضحايا داخل وخارج سوريا.
تخيل حال بشار الأسد الآن: «يستمع لهذه الكلمات جالسًا كفأر يختبئ في جحرٍ في روسيا، حتى لو كان هذا الجحر مبنيًا من ذهب». ويكرر مقولتهم القديمة: لو كان السجن قصرًا من ذهب، لما رغِبوا به؛ كانوا يفضلون أن يعودوا إلى بيوتهم ويعيشوا ساعة ويموتوا جائعين من أجل حريتهم. «اليوم هو يعيش نفس الحال».
قبل الاعتقال كان نعل يفضل البقاء في البيت على الذهاب للمطاعم، فقد ربته والدته على ألا يأكل أمام الناس خشية أن يشعر آخرون بنقصٍ. «كنت آخذ طعامي وأعود للمنزل لأتناولَه». الآن صار يستمتع بالمشي في الحي ويذهب أحيانًا إلى المطاعم ليشارك الآخرين لحظاتٍ عامة لا يمكن أن تُحسّ في السجن.
وعلى المستوى الوطني يؤكد أن «الأطفال هم من صنعوا الثورة»؛ يذكر اسم حَمزة الخطيب، الفتى من درعا البالغ من العمر 13 عامًا الذي قُتل بعد تعذيبٍ بوحشي من قبل أجهزة الأمن لما شارك في احتجاجات 2011، ويستشهد بصبيان درعا الذين رَسموا على الحائط عبارة «دورك جا يا دكتور» في إشارة إلى الأسد طبِيب العيون الذي درس في لندن. «هم شرارة هذا الانفجار الشعبي… البركان»، يقول نعل، «وكانت أول مسمار في نعش بشار الأسد».