على مدى عامين، راح العالم يراقب تدمير غزة أمام عيناه وفي زمنه الفعلي، واختار ألا يوقفه. قُتل أكثر من سبعين ألف فلسطيني، وتحول معظم القطاع إلى ركام، فيما تلك الحكومات نفسها التي أسرعت لاحتواء حروب إقليمية أخرى لم تنتج سوى تحذيرات جوفاء، ووقفات إطلاق نار صورية، وترتيبات مساعدات جلبت الموت بدل الإغاثة.
والآن فقط، بعد أن دافعوا عن ما سُمّي «هدنة» أخرى لم تُجنِ على الأرض سوى قسطٍ ضئيل من الراحة، يزعمون أنهم سيتدخلون لصياغة سلام واستقرار طويلَي الأمد. ولكن تركيزهم خاطئ منذ البداية: يتصرفون كما لو أن غزة هي الطرف الذي يحتاج إلى تثبيت الوضع، لا الدولة التي أفرغت كل أشكال الاستقرار هناك — إسرائيل.
في الواقع، تدّعي القوى العالمية بقيادة الولايات المتحدة الآن أنها تعمل على توفير «أمن استقراري» لإقليمنا الصغير المبتلى عبر هياكل للرقابة والسيطرة تُقام بالتعاون مع الجهة نفسها التي ارتكبت إبادة بحقنا.
وهكذا، في أعقاب هذه «الهدنة» الجديدة، تواجه غزة شكلاً جديدًا ودقيقًا من أشكال السيطرة. على بعد نحو ثلاثين كيلومترًا شمال غربي القطاع، في مستوطنة «كريات جات» المبنية على أنقاض قرية العراق المنشيّة الفلسطينية، تقول السلطات إن عشرات الدول والمنظمات متواجدة الآن داخل مركز التنسيق المدني-العسكري بقيادة الولايات المتحدة (CMCC)، وهو مقر قيادة أجنبي لعمليات غزة توسّع سريعًا في الأسابيع الأخيرة. يُعرض المركز كأول خطوة ملموسة في جهود واشنطن لـ«تثبيت» غزة؛ وهو مركز تُشرف فيه بعثات أجنبية على شؤون القطاع عن بعد وتبدأ بتشكيل النموذج الذي سيحكم مستقبله.
لكن إن كان هؤلاء مهتمين فعلاً بمستقبل غزة، فلماذا لا يدخلونها ويمشون بين أهلها؟ هل يخشون الناجين المهدَّمِين الذين يدّعون رعايتهم؟ أم يعلمون أن دخولهم غزة لن يضمن حتى سلامتهم من قنابل إسرائيل؟ ما هو واضح أن وضعهم جنبًا إلى جنب مع الجيش الإسرائيلي يعني اختيارهم العمل مع الجناة، وتحويل وعد السلام إلى أداة أخرى للسيطرة.
رأيت هذه بعثات «الاستقرار» الأجنبية مراتٍ عديدة قبل أن تحظى غزة بمركزية اهتمام العالم.
أذكر جيدًا أول مرة رأيت صورة لمدرعة اليونيفيل البيضاء وأنا طفل؛ دهشت أن الأمم المتحدة السلمية، تلك التي بدت بياناتها مليئة بالقلق تهدف إلى إسكات البنادق، تقبل حمل البنادق باسم السلام. اللون الأبيض بدا مطمئنًا، كما لو أن وراء تلك الوحوش المدرعة يقف منقذون سيجلبون الأمان أخيرًا. حينها صدقت أن قوات حفظ السلام، أو «صنّاع السلام»، في تلك المركبات البيضاء قد تحمينا يومًا ما عندما تحاول إسرائيل قصفنا.
لكن الكبر علمني العكس. أدركت أن قوة لا تستطيع حتى أن تحمي نفسها من هجمات إسرائيل لن تحمي أحدًا. لم يكونوا منقذين؛ كانوا مراقبين، يشاهدون الفظائع تتكشف، عاجزين أو غير راغبين في التدخل.
ومع مرور الزمن، رأيت دعاة السلام المزعومين لا يكتفون بالفشل في حمايتنا فحسب، بل صاروا يمكّنون قتل إسرائيل بطرقٍ وصفها بعضهم بـ«الإبداع الإنساني».
مؤسسة غزة الإنسانية التي أنشأتها الولايات المتحدة (GHF)، برنامج أمريكي قُدِّم للتحكم في توزيع المساعدات بعد تشديد الحصار، بيّنت بوضوح كيف أن التدخل الأجنبي يمكن أن يغذي عنف إسرائيل مباشرة. ادعت الواجب الأخلاقي لإطعامنا بعد أن صعّدت إسرائيل سياسة المجاعة بتعليق إيصال الغذاء بذريعة أن المساعدات «لا تصل إلى المستحقين». ثم جاءت فخاخ GHF القاتلة، حيث ذُبح أكثر من 2600 فلسطيني تحت نيران إسرائيل بينما كانت ضباط أمريكيون يشاهدون ألعاب الجوع التي ساهموا في صناعتها.
والآن تعود واشنطن بشركاء أكثر ووعدٍ بـ«قوة دولية للاستقرار» ليست فقط لتقديم المساعدات، بل لتأمين مستقبل غزة كله. مهمتها الجديدة، الملبوسة مرة أخرى رداء لغة السلام، تبدو أقل شبهًا بالخلاص وأكثر شبهًا بتجربة جديدة في مختبر ما بعد الإبادة، حيث تُعاد صناعة غزة لتتلاءم مع رؤى الخارج عن «الاستقرار». كل ما كانت تحتاجه هذه القوة هو شرعية دولية؛ شرط حصلت عليه بسهولة أكبر بدعم أمريكي مما حصلت أي مساعٍ لوقف إبادة إسرائيل في مجلس الأمن.
أي إحساس متبقٍ بالأمن في غزة قد تلاشى، ليس فقط بسبب هدير قصف إسرائيل المتواصل، بل لأن من حاولوا الحفاظ على ما تبقّى من نظامنا المحلي الهش وُسموا بـ«الإرهاب». قصفتهم إسرائيل، وفي أماكنهم منحت السلطة لمرتكبين من قطاع الجريمة ليفرَض علينا تصورها الخاص لما ينبغي أن يكون عليه «الأمن». النتيجة كانت، ولا تزال إلى حد كبير، فوضى إبادية من صنع الإنسان حيث صار كيس الطحين كنزًا مطلوبًا.
مشاهدة هذه النماذج المفروضة من «الأمن» وهي تتكشف بينما الناس يعانون أمر مرعب. لا وجود لأمن حقيقي ما دامت حتى لقمة الخبز تُستخدم كسلاح، بينما مخطّطو السلام الدوليون يتباحثون كيف ينبغي أن نُطعَم بدل أن يرفعوا الحصار. كل ضروريات الحياة تُعامل كامتياز يجب أن نثبت أحقيتنا به لإقناع «حماة السلام» بأننا نستحقها. وربما بعد ذلك فقط يتوسلون لسجاننا أن يخفف قيود الحصار.
البقاء ذاته ليس مضمونًا. المستقبل الذي وُعِدنا به حاضر بالفعل في ما يُسمى بعصر «ما بعد الهدنة». قنابل إسرائيل لم تتوقف حقًا؛ فقد قُتل أكثر من 340 فلسطينيًا منذ بدء «الهدنة». ليس غريبًا علينا أن تواصل إسرائيل قصفنا حتى تحت ستار «الهدنة»، لكن الخطر الحقيقي الآن أن هذه المجازر تُرتكب بعينَي مراقبي السلام الجدد الذين لا يجرؤون على التدخل ولا حتى يعترفون بسيل الدماء الجديد. مستوى تجريدنا من الإنسانية مخيف؛ نُختزل إلى مخلوقات يجوز قتلها وتجويعها ومحوها بينما تُراقب أجسادنا. نحن محبوسون كوحوش داخل قفص تقسو أقواسه أكثر فأكثر، نُعاقب عن جرائم لم نرتكبها من سجان لا يختبئ حتى من طبيعته الإجرامية.
إسرائيل، المتهمة دوليًا بالإبادة، ارتكبت كل جريمة يمكن تصورها، شنّت حروبًا عدّة من دون مبرر، وما زالت تحتجز شعبًا بأكمله رهينة، بينما يُصوّر العالم غزة كطرف محتاج إلى «الاستقرار». ومع ذلك تستمر إسرائيل بلا قيود، مستمتعة بدورها كضيف محبوب لدى وسطاء السلام أنفسهم الذين وُكّلوا بـ«تثبيت» غزة. العالم مستعد لرفع قوّات لمراقبة أطفال غزة وهم يحاولون ملء جرارهم من ماء تحت الحصار، بينما جيشٌ يطلق جنوده على تسميتهم لأنفسهم «إمبراطورية مصاصي الدماء» يتحرك بحرية بعد أن سَفك دماء أطفال غزة.
على مدار العامين الماضيين، تحمل أهل غزة أقسى أشكال العقاب الجماعي. والجهود الجديدة المعلنة للسلام تبدو كما لو أن العالم يريد معاقبة غزة أكثر على صمودها وبقائها بعد إبادة إسرائيل.
الأيادي التي استخدمت الفيتو مرارًا لعرقلة إنهاء هذه الإبادة في الأمم المتحده، بينما تعانق بحرارة قادة إسرائيل وتزوّد طائراتهم الحربية بقنابل موقعة، لن تجلب السلام لغزة. عيون العالم التي شاهدت إرهاب إسرائيل واختارت التغاضي لا تستطيع تبرئة تواطؤها بمجرد الادعاء بأنها تراقب غزة عن كثب. يجب أن يتركز اهتمام المجتمع الدولي على المصدر الحقيقي لعدم الاستقرار، وعلى احتواء العنف المنظّم الذي تمارسه دولة بوقاحة ضد جوهر الإنسانية على شاشات كل مكان. بدلاً من تصوير الفلسطينيين كقوة مهددة، على العالم أن يقيد ويحاسب من لديهم القدرة الحقيقية على تدمير الأرواح يوميًا.
غزة لنا؛ تستحق المساحة لتبقى، لا أن تُصوّر كورقة معزولة في أرض تُطهر عرقيًا، أو كطرف «غير مستقر» يحتاج إلى إشراف أجنبي. غزة جزء لا يتجزأ من فلسطين وشعبها؛ ليست هناك فلسطين من دون غزة. الظلم المرئي الذي تكابده أمّتنا منذ أكثر من قرن يتجاوز الوصف، ومع ذلك تُعامل عدسات العالم المجرّدة من الإنسانية آلامنا كعرض يُشاهد.
نحن نتوق لقيام العدالة، لكن كيف يمكن أن تتحقق حين تتحول كل عاقبة مفترضة على ظالمنا إلى عقوبة جديدة تُثقل كاهلنا؟
طالما يُمنع الاحتلال الخارج عن القانون من المحاسبة ويُسمح له بالعمل دون عقاب، فلن يكون هناك استقرار لغزة أو لفلسطين الأوسع أو للمنطقة. لن يتحقق الاستقرار إلا حين يواجه العالم عنف إسرائيل، لا من نجوا من هذا العنف.
الآراء الواردة في هذا المقال هي رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة سياسة قناة الجزيرة التحريرية.