نداء تحذيري، ثم صوت غير مرئي على مكبرات الصوت: «أرجو الانتباه. صافرة إنذار جوي في المدينة. تفضلوا بالانتقال إلى الملجأ في الطابق ناقص الثاني.» يتبع ذلك زقزقة مزعجة تشبه خرير البعوض لطائرات مسيرة روسية قادمة، تتجمع بالمئات فوق السحب.
يليها فوراً صفير مدافع مضادة للطيران، ودوى انفجارات بعيدة، ثم نداء صفارات سيارات الإسعاف والإطفاء المريع. هذه هي الواقعية القاتمة لليل كييف وباقي المدن في اوكرانيا.
هذه مركبات هجومية متفجرة تصطدم وتنفجر عند الارتطام. لقد أصبحت الطائرات المسيرة جزءاً لا يتجزأ من فنون الحرب الحديثة، لكنها لم تعد محصورة بساحة القتال.
على امتداد غرب أوروبا، بعيداً عن خطوط المواجهة، لاحظت سلطات عدة مطارات وقواعد عسكرية ومحطات توليد كهرباء تحليق مسيرات غير مسلحة — جزء من برنامج يُشتبه أنه «حرب هجينة» تقوده موسكو، يراه بعض المحللين اختباراً لمدى صمود دول حلف الناتو الداعمة لأوكرانيا.
مشاهدات متكررة لطائرات مسيرة حول بنى تحتية حساسة في أوروبا، بما فيها بلجيكا والدنمارك وبولندا، أثارت ذعراً لدى دول عديدة داخل الحلف. وفي أعقاب ذلك برز نقاش حول بناء «جدار مسيري» لحماية أجزاء من القارة — لكن ما مدى ضرورة هذا الجدار، وإلى أي حدّ واقعيّ؟
نداء استيقاظ لأوروبا
في 9 سبتمبر، تجاوزت نحو عشرين طائرة مسيرة روسية الحدود الأوكرانية ودخلت بولندا، ما أدى إلى إغلاق أربعة مطارات. أقلعت مقاتلات حلف الناتو وأسقطت عدداً منها، بينما تحطمت بقية الطائرات عبر مناطق متفرقة في بولندا متناثرة بقاياها. كانت هذه الحادثة بمثابة صفعة حقيقية لأوروبا، وأحد أكبر خروقات أجواء الناتو منذ اندلاع الحرب.
تتصاعد الدعوات الآن لبناء منظومة دفاع متكاملة، لا سيما أمام احتمال استخدام طائرات أكبر مدىً قد تقطع أكثر من ألف كيلومتر، وهو ما دفع دولاً ومراكز بحثية للتفكير في رد موحد ومتعدد الطبقات.
وباء الطائرات المجهولة
في الوقت نفسه، كثّفت أوكرانيا هجماتها بطائرات بعيدة المدى على مطارات وبنى تحتية روسية، واستخدمت أيضاً زورقات بحرية مسيرة فعّالة ضد أساطيل في البحر الأسود. لكن ما يثير القلق في أوروبا الغربية هو ظاهرة «الطائرات المجهولة» التي تظهر ليلاً قرب مطارات كبرى وقواعد عسكرية—حوادث لم تُسجَّل عليها ذخائر حتى الآن، لكن مصدرها مجهول وطبيعتها تُشي بعمليات استكشافية أو اختبارات تعمد إرباك الحركة المدنية والعسكرية.
تركز الشبهات على روسيا، إذ تعتقد أجهزة استخبارات غربية أن موسكو قد تستخدم وكلاء محليين لإطلاق مسيرات قصيرة المدى تسبب اضطراباً وقلقاً في صفوف المدنيين والبنى الحيوية؛ والكرملين ينفي أي تورط. تستهدف هذه التحركات بلجيكا بشكل خاص لاحتضانها مقرات الناتو والاتحاد الأوروبي ومراكز مالية حيوية، الأمر الذي أثار ربطاً بين الخلافات بشأن تجميد أصول روسية وبروز هذه الحوادث بالقرب من بروكسل ولييج.
أرسلت المملكة المتحدة فريقاً من خبراء مكافحة الطائرات المسيرة من لواء ريجمنت التابع للقوات الجوية الملكية لدعم دفاعات بلجيكا، ما يعكس القلق الأوروبي المتزايد من خطر التصنت والاصطفاف عند المطارات ومحطات الطاقة.
جدار الطائرات المسيرة: لماذا ليس حلّاً سحرياً
فكرة «الجدار المسيري» الأوروبي تقوم على إنشاء منظومة دفاعية منسقة ومتعددة الطبقات تمتد نظرياً من دول البلطيق إلى البحر الأسود، تهدف إلى صدّ اختراقات من طائرات تُطلق من اتجاهات روسية. لكن تنفيذ مثل هذا المشروع يواجه تحديات تقنية ومالية وسياسية: الرد المتكرر بمقاتلات للاعتراض مكلف للغاية وغير مستدام، بينما تقنيات التشويش أو إسقاط الطائرات بالمضادات الإلكترونية أو الشبكات الأرضية تتطلب تنسيقاً استخباراتياً واسع النطاق وبنية تحتية معقدة.
تطرح المسألة أيضاً سؤالاً عملياً: كيف سيكون رد الناتو لو أرسلت موسكو مئات أو آلاف الطائرات في موجة واحدة؟ التكلفة والفعالية وسرعة الاستجابة كلها عوامل حسّاسة. يرى بعض المسؤولين أن إنفاق موارد كبيرة على طلعات جوية متكررة ليس الحل الأمثل، بينما يطالب آخرون بتكامل دفاعي أوروبي قادر على تقليل الاعتماد على اعتراضات مكلفة.
ختاماً، المواجهة مع تهديد المسيرات لا تقتصر على تقنيات إسقاط أو تعطيل؛ بل تشمل تحسين الاستخبارات، تعزيز الأمن في البنى التحتية الحيوية، وتنسيق السياسات الأوروبية بشأن الأصول المجمدة والرد السياسي على أشكال الحرب الهجينة، لأن الحل العسكري وحده لن يردع حملة من التدخلات الممنهجة المعقدة. جدار مضادّ للطائرات المسيرة: فكرةٌ ومحدودية
من المُرجّح أن يتكوّن النظام المقترح من مزيج من رادارات ومجسات وأنظمة تشويش ومنظومات أسلحة، يُمكّنه من اكتشاف الطائرات المسيرة القادمة وتتبعها ثم تدميرها. وقالت كايا كالّاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، إن نظاماً مضاداً للطائرات المسيرة ينبغي أن يصبح عملياً بالكامل بحلول نهاية 2027.
استوردت روسيا في البداية طائرات مسيّرة من طراز شاهد‑136 من إيران، ومن غير المستغرب أن تكون الدول الأكثر حماسة لرؤيته يُطبّق بسرعة — مثل بولندا وفنلندا — هي الأقرب جغرافياً إلى روسيا.
كاتيا بيغو ترى أن الأمر ضروري ومتاخر منذ وقت طويل، لكنها تضيف: «الأمر لا يقتصر على الطائرات المسيرة فحسب. ليس هناك ما يكفي على مستوى الدفاع الصاروخي التقليدي والدفاع الجوي على طول الحدود الشرقية.»
لا يعدّ «جدار» ضد الطائرات المسيرة حلّاً سحريّاً للحماية الجوية، وكثيرون يشكّكون في واقعية تحقيقه بالكامل. يرى روبرت تولاست، باحث في معهد الخدمات المتحدة الملكي (RUSI)، أن فكرة وجود «جدار منيعة» أمرٌ مستبعد. ومع ذلك، يفهم سبب المطالبة بمثل هذا الحل ويرى ضرورة المحاولة.
للدول القريبة من حدود روسيا — الدول البالتية، بولندا، ألمانيا — من الضروري السعي لبناء مستوى أعلى من الحماية، لأن هذه الدول تقع ضمن مدى الطائرات المسيرة طويلة المدى.
مقاربة متعدّدة الطبقات
كما توضح كاتيا بيغو، الهدف ليس بناء جدارٍ محكمٍ لا يُخترق بالمعنى الحرفي، فهذا غير ممكن لا من ناحية طول الجبهة ولا من ناحية محدودية التقنيات الحالية، بل الهدف هو تجميع مجموعة إجراءات وتقنيات تلتقط أنواعاً مختلفة من الطائرات المسيرة وتمنعها.
إيقاف الطائرات المسيرة: «القتل الصلب» مقابل التشويش
يشرح فابيان هينز، باحث في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية بلندن، قائمة من الخيارات للكشف عن الطائرات المسيرة: كشفٌ صوتي، رادارات جوية تكشف الأهداف ذات الارتفاع المنخفض بدقة، ورادارات أرضية قصيرة المدى تعمل جيداً ضد الأهداف العالية الارتفاع، وأنظمة بصرية وأشعة تحت حمراء. وبعد الكشف، يمكن الاعتماد على «قتلٍ ناعم» أو «قتلٍ صلب».
الـ«قتل الصلب» يعني تدمير الطائرة المسيرة بالمدفعية أو الصواريخ، أما «القتل الناعم» فيُقصد به إبطال فاعلية الطائرة عادةً بوسائل إلكترونية. لقد نجحت روسيا وأوكرانيا على أرض المعركة أحياناً في التحايل على محاولات «القتل الناعم» عبر تجهيز الطائرات المسيرة بكابلات ليفية طويلة تنسلّ أثناء الطيران، لكن هذا الأسلوب لا يصلح لرحلات تمتدّ لمئات الكيلومترات عبر الحدود.
أما وسائل القتل الصلب فتتضمّن صواريخ سطح‑جو، مقاتلات ومروحيات، وحتى ليزرات يمكن أن تكون مفيدة لكنّها ليست السلاح العجائبي كما يصوّره البعض. ويؤمن أندريه روغاتشيفسكي بأن التشويش يمكن أن يكون بديلاً فعّالاً، لكن كي تنجح أي «حائط» من هذا النوع يجب أن يتعامل مع طيف واسع من التهديدات الجوية، وربما مع هجمات متزامنة من جهات متعددة.
سؤال تمويلي مثير للجدل
مع تصاعد التوتر بين أوروبا وروسيا منذ الغزو الشامل لأوكرانيا، تزايدت أيضاً حوادث «الحرب الهجينة» المنسوبة إلى روسيا — وهي التي تنفيها غالباً — مثل الهجمات الإلكترونية وحملات التضليل وأجهزة حارقة في مستودعات الشحن ومراقبة أو تخريب الكابلات البحرية. وفي منتدى أمني في البحرين أكّد الأدميرال جوزيبي كافو دراجوني، رئيس اللجنة العسكرية لحلف الناتو، أن الدفاع الجوي يحتلّ أولوية قصوى بين احتياجات الناتو الدفاعية الحالية.
من المتوقع أن تُفعَّل المراحل الأولى من «الجدار» المضاد للطائرات المسيرة خلال أشهر، رغم أن بعض التفاصيل لم تُحسم بعد. وفي الوقت نفسه يعمل قيادة التحول للحلف (ACT) في نورفولك على حلول أطول أجلاً، وهذا تحدٍّ كبير.
التحدّي الأساسي، وفق تولاست، هو حجم المنطقة التي يجب حمايتها: تحتاج إلى طيف واسع من الرادارات التكتيكية للرصد على الارتفاع المنخفض ورادارات أكبر للأهداف العالية، على امتداد آلاف الكيلومترات. كما تحتاج إلى مقاوِمات لاعتراض فعّالة وقوات جاهزة على مدار الساعة. لن يصبح النظام مطلق الضمان، وحتى مع انخفاض تكلفة بعض الرادارات والمقاوِمات فمن غير المرجّح أن يكون رخيصاً.
المسألة المالية معقّدة. مع تزايد الإنفاق الدفاعي الأوروبي لا تزال هناك منافسة على التمويل من قطاعات أخرى — سفن وغواصات وربما أسلحة نووية وأقمار صناعية — ولهذا يظل «جدار الطائرات المسيرة» مسألة مثيرة للجدل مالياً لدى البعض. قد يُموَّل المشروع من مزيج من أموال الاتحاد الأوروبي والميزانيات الوطنية (خصوصاً في أوروبا الشرقية) وامدادات روسية مجمدة.
في البداية كان المقصود أن يغطي الجدار الجناح الشرقي، ومع قيادة الاتحاد الأوروبي للمبادرة توسّعت نطاقاته. الجميع يعترف بأن هناك بحاجه إلى اتخاذ إجراء وتنسيق وتحريك الموارد، لكن من سيقود ذلك وما شكل الحلّ النهائي لا يزالان محط نقاش. «كلما سعيتَ لأن تكون آلية الحماية خالية من الأخطاء تمامًا، ارتفعت التكلفة بشكل أكبر».
وبالنسبة للموعد المستهدف، يرى السيد تولاست أن عام 2027 طموح للغاية — ولكنه يضيف: «يمكنهم بالتأكيد بلوغ مستوى أعلى من الحماية بحلول ذلك الحين».
اضرب رامِي القوس لا السهم
بينما تسير الأمور بهذه الوتيرة، تزداد مهمة بناء الجدار الدفاعي صعوبة. فبسرعة إدخال إجراءات مضادة جديدة للطائرات المسيرة، تظهر تهديدات شكلية جديدة من الطائرات نفسها قادرة على تجاوز تلك الإجراءات.
وهذا يحول المسألة إلى نوع من سباق تسلُّح جديد.
«دورات التطوير في هذا المجال متسارعة إلى حدٍ كبير، ولا سيما في بيئات الصراع»، يقول جوش برج، المؤسس المشارك لشركة Gallos Technologies البريطانية التي تستثمر في تقنيات الأمن. «وهذا يعني أن أي دفاع ضد الطائرات المسيرة سيتقادم بسرعة مع تكيف المُعادية.»
ويختم: «المُعتدي سيراقب، يكيف، يكرر — حتى يتمكن من الاختراق».
العديد قُتلوا أو جرحوا في أوكرانيا نتيجة ضربات روسية بصواريخ وطائرات مسيرة.
فهل نسأل السؤال الخاطئ كليًا؟ بدلاً من بناء جدار مضاد للطائرات المسيرة لإيقافها، أليس من الأفضل استهداف القواعد التي تُطلق تلك الطائرات — كما يقول المثل القديم: اضرب الرامي لا السهم؟
«من جهة، من المهم أن نصبح أكثر قدرة على الصمود»، تجادل السيدة بيغو، «لكن الأفضل بكثير أن لا يحدث هذا الأمر أصلاً».
«والحل هنا يكمن في أن نجعل الأمر أكثر وضوحًا لروسيا، أو لأي فاعل يقف وراء ذلك، بأن هذا السلوك يتجاوز الخطوط الحمراء. له عواقب وتكاليف عليهم. وهذا أمر مهم؛ يجب أن يكون جزءًا من الاستراتيجية».
لكن أي اقتراح بأن تضرب الناتو أهدافًا روسية — بشكل kinetic وليس رقميًا في الفضاء السيبراني — سيكون محفوفًا بالمخاطر ومصاعدًا للتصعيد.
منذ غزو روسيا الشامل لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022، كان التحدي أمام الناتو، وبشكل خاص أمام أقوى أعضائه الولايات المتحدة، هو مساعدة أوكرانيا على الدفاع عن نفسها من دون الانجرار إلى حرب بين الناتو وروسيا.
إن إقامة جدار دفاعي ضد الطائرات المسيرة في أوروبا أمر واحد؛ أما مهاجمة مواقع إطلاق تلك الطائرات فشيء آخر تمامًا.
حقوق الصورة العلوية: Getty Images، Sketchfab
BBC InDepth هو المنزل على الموقع والتطبيق لأفضل التحليلات، مع رؤى جديدة تتحدى الافتراضات وتقارير معمقة عن أهم القضايا الراهنة. يمكنك الآن الاشتراك لتتلقى إشعارات عند نشر أي قصة من InDepth — للاطّلاع على كيفية الاشتراك، تفضل بزيارة موقع الـBBC. ارجاء إرسال النص المراد إعادة صياغته وترجمته. لم أتلقَّ أي محتوى.