استسلام الإعلام الأمريكي ليس حالة استثنائية

قد تكون الديمقراطية الأميركية في مخاطرة أكبر مما شهدته في أي لحظة من التاريخ الحديث. ليس فقط أن الرئيس دونالد ترامب وحلفاءه الجمهوريين يسعون إلى ضمان ألا يشارك الأميركيون ثانيةً في انتخابات حرة ونزيهة حقاً، بل إن المسؤولين العموميين وشخصيات مرتبطة بترامب في قطاع الإعلام يعبثون أيضاً ببيئة تداول المعلوما ت على نطاق غير مسبوق. المسألة ليست اختفاء المعلومات بقدر ما هي انتقاؤها وتأخيرها وتحويل مسارها من قبل من في مواقع السلطة.

تأملوا ما يتعلق بما يُعرف بـ«ملفات إبستاين» المتصلة بالتحقيق في شبكات الاتجار الجنسي بالأطفال التي كان يمارسها الممول الراحل جيفري إبستاين؛ فقد بذلت إدارة ترامب جهوداً كبيرة لدفن تلك الملفات وإخفائها.

في أوائل فبراير، وعدت المدعية العامة بام بوندي عبر شبكة فوكس نيوز بالشفافية، قائلة إن قائمة عملاء إبستاين «جالسة على مكتبي الآن». لكن ما لبثت هي ووزارة العدل التي تشرف عليها أن قامتا بانقلاب مفاجئ: أصدرت ما أسمته «المرحلة الأولى» من الملفات، فإذا بها لا تتعدى كونها «كمّاً كبيراً من الحجب الأحمر الذي لا يترك شيئاً ذا قيمة». وفي يوليو أغلقت الباب نهائياً على قائمة العملاء، قائلين إن لا مزيد من الملفات ستُنشر للعامة.

استنتج كثيرون بصورة معقولة أن هدف بوندي كان حماية ترامب، لا سيما بعدما أفادت تقارير بأنها أطلعت الأخير في مايو على الإشارات المتكررة إليه في تلك الملفات.

زد على ذلك قرار رئيس مجلس النواب مايك جونسون بتعليق أعمال الكونغرس لمنع التصويت على نشر ملفات إبستاين، ومحاولته اليائسة تصوير ترامب كـ«مخبر» لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي يعمل على الإطاحة بإبستاين. مجتمعة، تبدو هذه التحركات أقل شبهاً بالشفافية وأكثر شبهاً بواحدة من أكبر حالات التستر الحكومية في التاريخ الأميركي.

يقرأ  عامل كوري جنوبي يروي لبي بي سي حالة من الذعر والارتباك أثناء مداهمة لمقر هيونداي

يندرج هذا النمط ضمن كتاب سياسات سلطوي أوسع: فمن جهة أخرى، عمل ترامب على توطيد السلطة التنفيذية بشكل كبير، وعسكرة سياسة الهجرة، واستخدم صلاحيات الطوارئ مراراً، إلى جانب إجراءات أخرى تقوّض دستور الولايات المتحدة.

تتجلى هذه النزعات السلطوية أيضاً في محاولات تقييد المعارضين وشق حدود الخطاب المقبول.

الإعلام — الركن الرابع المزعوم للديمقراطية — قاوم أحياناً بعض تجاوزات ترامب. لكن في مرات عديدة خضع لضغط البيت الأبيض. ففي ديسمبر 2024، وحتى قبل أن يستلم ترامب منصبه، تسوية قناة ABC بدعوى التشهير ضده، التي بلغت 15 مليون دولار، كانت دليلاً مبكراً على ما يمكن أن يحدث. وبعد سبعة أشهر، دفعت شركة باراماونت، الشركة الأم لشبكة CBS News، مبلغ 16 مليون دولار لتسوية دعوى لم تكن كثيرون يظنون أنها ستخسرها. وقد أزيل مقدّمون ومذيعون انتقاديون بهدوء بينما انحرفت غرف الأخبار نحو اليمين تحاشياً لاستفزاز الرئيس.

قد تكون باراماونت أبلغ مثال على هذا التحول؛ ففي إطار سعيها للاندماج مع Skydance Media لتشكيل تكتل ضخم، تعهّدت بإلغاء سياسات التنوع والعدالة والشمول، واستحوذت الشركة الجديدة على صحيفة The Free Press ورفعت مؤسستها المحافظة باري فايس إلى موقع تحرير رفيع؛ كما وعدت بـ«معالجة التحيز».

بعيداً عن الاستسلام لضغوط البيت الأبيض، لم تكفّ الصحافة الأميركية عن الوقوف متراخية أمام التهديدات التي تطال الحرية المكفولة بالتعديل الأول، خصوصاً الخطاب المتعلق بإسرائيل. لقد أبدت ضعفا أمام ما وصفته إسرائيل بـ«حربها على الصحافة»، التي منعت صحفيين دوليين من دخول غزة وأدت إلى مقتل أكثر من 270 عاملاً إعلامياً.

بعد مقتل عدد من الصحفيين الفلسطينيين في مستشفى بغزة في نهاية الشهر الماضي، وسمت انتقادات قوية من صحفيين أميركيين مرموقين؛ فقد قال الصحفي جيريمي سكاهيل إنّه «لم أشعر يوماً بخجل أكثر من مهنتنا… الدم على أيدي المؤسسات الإعلامية الغربية التي نَفَتت إنسانية الفلسطينيين منهجياً… وكانت ناقلة لأكاذيب النظام الإسرائيلي… عار على مهنتنا».

يقرأ  سيول تجرف حافلة ركاب في إيران — الحادث ليس في باكستان

بدلاً من الاحتجاج على منع الصحفيين أو على القتل المنهجي لعمال الإعلام الفلسطينيين، واصلت مراكز الإعلام الأميركية السائدة إلى حد كبير تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتدعيم سرديات إسرائيل. دراسات متعددة وثّقت اختلالات منهجية في التغطية تميل بقوة لصالح إسرائيل، لا سيما في مصادر الخبر، وتجسيد الضحايا، والإطار العام للتقارير.

لا ينبغي أن يفاجئ ذلك المراقبين عن قرب.

لقد أكد العلماء منذ زمن أن النظام السياسي الأميركي لا يتوافق مع أي تصور حقيقي للديمقراطية، وأن وسائل الإعلام الأميركية ليست مستقلة تماماً، بل مندمجة راسخة داخل بنية السلطة المؤسسية-الاقتصادية.

كما قال عالم الإعلام جيه. هربرت ألتشول بصراحة: «النافذون لم يشعروا قط بالارتياح تجاه فكرة صحافة حرة.» وكان عالم الاجتماع روبرت إنتمن أكثر صراحة حين قال: «مصادر الحكومة والصحفيون ينخرطون في ألفة تجعل من فكرة صحافة حرة إلى حدٍّ كبير غير دقيقة.»

بمعنى ما، فإن سنوات ترامب هي تسريع لمسارٍ قائم لا شذوذ مفاجئ؛ فالإدارة وحلفاؤها أكثر عدوانية ووضوحاً من سابقاتها في محاولاتهم للسيطرة على المعلوما ت، ومعاقبة الخطاب المعارض، وإعادة تشكيل الإعلام المؤسسي.

كانت الديمقراطية الأميركية دائماً أقرب إلى الوهم منها إلى الواقع. الانتخابات الحرة والنزيهة، والضوابط والتوازنات الفعالة، وصحافة مستقلة حقيقية كانت هشة — أسطورة أكثر منها ممارسة. ما تغيّر الآن هو السرعة والفظاظة التي تنفكّ بها هذه الأساطير. إن تلاعب المعلومات، وتجريم المعارضة، وملاءمة الإعلام للشركات ليست أموراً عرضية؛ بل آليات تُسهم في تآكل الديمقراطية.

ما لم تُكبَح إدارة ترامب — وما لم ترتقِ الصحافة الأميركية إلى قيمها المعلنة — فلن يجد الأميركيون أنفسهم أمام «ديمقراطية في أزمة» فحسب، بل أمام هيكلها الخاوٍ.

الآراء الواردة هنا تعبر عن كاتبها ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لـــالجزيرة. لم ترفق نصاً لأعيد صياغته أو أترجمه.

يقرأ  محاكمة جايير بولسونارو تصل إلى مرحلة النطق بالحكم في قضية الانقلاب المزعوم

أرجو لسق النصّ الذي ترغب في معالجته هنا، وسأقّدّم لك نسخة عربية مُتقنة، واضحة الأسلوب ومراعية لمستوى C2، مع إمكانية إدراج بعض الأخطاء الشائعة حسب طلبك.

أضف تعليق