«الاشتباكات بين الدروز والبدو في سوريا ليست نزاعًا طائفيًا» — آراء

اشتداد العنف في محافظة السويدا خلال يوليو أعاد إثارة المخاوف من انزلاق سورية إلى دائرة الصراع مجدداً. سارع كثير من العناوين الإعلامية إلى تصوير ما جرى على أنه حلقة جديدة من “الصراع الطائفي” الطويل بين الدروز والبدو السنّة، لكن هذا التصوير يبسط المشهد ويخفي أكثر مما يبيّن.

الحقيقة أعقد من ذلك. فقد استفُزّت الهويات الطائفية في فترات التوتر، إلا أن جذور الصراع تعود إلى أسباب أعمق: نزاعات تاريخية على الأرض والمرعى، وتنافس على طرق التهريب والامتيازات السلطوية، وانهيار اقتصادي تفاقم بفعل جفاف ممتد وتغيرات مناخية. اختزال التصعيد إلى قضية كراهية دينية يمحو السياق السياسي والبيئي والاجتماعي الذي أنتج الأزمة ويعطل سبل حلها.

هجرة الدروز
في القرن الثامن عشر بدأ الدروز بالاستيطان في جبل العرب، جزء من سنجق الحوران في الإمبراطورية العثمانية آنذاك، نتيجة نزاعات داخلية بين عشائر درزية في جبل لبنان. أنشأوا قرى، حرثوا الأرض، واكتسبوا نفوذاً سياسياً وعسكرياً في المنطقة.

الدرزية ربطت استيطانها بمفهوم استصلاح أرض وصفها السرد الشفهي بأنها “خالية”، لكن هذا السرد واجهه تشكيك شديد من مجتمعات الرواشد البدوية التي كانت تتواجد في تلك البقاع منذ قرون.

البدو كانوا مجتمعاً متنقلاً لا يقيمون مستوطنات دائمة؛ كانوا يستخدمون الأرض موسمياً للرعي على مسالك هجرة قديمة ويعتمدون على مصادر مياه لا تُملَّك بالمعنى الحديث. لذا لم تكن تلك البقاع فراغات بلا صاحب، بل كانت مناظر آبائية وأنسابية عندهم، ورؤية الدروز للمنطقة بوصفها أرضاً مستردة اعتُبرت توسعاً دخيلًا.

هذا الصدام على الموارد والمرعى والآبار وحدود السيادة المحلية أدى حتماً إلى احتكاكات، جرت على نحو متكرر في شكل غزوات قبلية ونزاعات حدودية — ما روي عنها في المصادر التاريخية باسم الغزوات — التي كانت مزيجاً من الصراع على الموارد وشعور بالكرامة والبقاء. التاريخ الشفهي الدرزي صور البدو كمغتصبين وخائنين أحياناً، بينما سردية البدو اعتبرت توسع الدروز عدواناً على أرضهم.

يقرأ  لا صناديق قمامة في شوارع طوكيولماذا اضطررت كسائح للمرة الأولى لاكتشاف السبب؟

غير أن العلاقات لم تكن دائماً عدائية؛ فظهرت فترات تعايش وتعاون: استأجر المزارعون الدروز رعاة بدو لتربية المواشي، واعتمدت الجماعات البدوية على أسواق الدروز ومخازن الحبوب. إلا أن هذا التوازن الهش انهار في أوقات الشدائد، خصوصاً أثناء الجفاف أو انهيار الدولة أو التدخل السياسي.

تاريخ التلاعب السياسي
على مدى قرنين، استغلت أنظمة متعاقبة — من العثمانيين إلى الانتداب الفرنسي ثم حكم آل الأسد — التوترات المحلية لتعزيز سيطرتها.

العثمانيون، رغبةً في تهدئة نفوذ الدروز المتزايد في جبل العرب، لجأوا إلى تشجيع بعض قبائل البدو على مهاجمة القرى الدروزية المتمردة، كوسيلة لمعاقبة المعارضين دون نشر قوات إمبراطورية كبيرة، ما عمّق عداوات بين الطرفين مع مطلع القرن العشرين.

الانتداب الفرنسي أيضاً استثمر الانقسامات المحلية. منح الدروز امتيازات خاصة بتأسيس “دولة جبال الدروز”، بيد أن ذلك لم يهدئ النفور العام. وفي 1925 قاد سلطان الأطرش revolt ضد الانتداب، وانضمت مجموعات بدوية إلى النضال، وخاض الطرفان معارك كبرى مثل الكفر والمزرعة، ما دلّ على إمكان وحدة بينهما ضد قوى استعمارية مشتركة.

بعد الاستقلال 1946 تدهورت العلاقة حين شنّ أديب الشيشكلي حملة عنيفة على الدروز، وصوّرهم كتهديد للوحدة الوطنية، وشُجّعت عمليات ضدهم أحياناً بإشراف الدولة، ما أعاد تأجيج مخاوف الخيانات. وفي مسار موالٍ، سعى مشروع بناء الدولة إلى توطين البدو وإلغاء امتيازات منحت في عهد الانتداب؛ وفي 1958 ألغيت قوانين قبلية مميّزة أثناء الوحدة مع مصر، وتلاشى الاعتراف القانوني المستقل لبعض قبائل البدو، وصارا هم أيضاً — إلى جانب الدروز — يُنظر إليهم كتهديد محتمل لوحدة الدولة.

خلال عقود لاحقة، وعلى وجه الخصوص في ظل حكم عائلة الأسد، حافظت الدولة على استقرار ظاهر عبر قمع الصراعات المفتوحة من دون معالجة المظالم البنيوية. وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي عاش الدروز والبدو في تداخل محدود مع نزاعات أرضية متفرقة. ذلك الهدوء الهش انهار عام 2000 عندما تصاعد نزاع محلي إلى اشتباكات دموية في المحافظة، مع ما رافقها من تشديد للحدود الجماعية وكشف حدود الاستقرار السلطوي.

يقرأ  مستقبل إيساك مع نيوكاسل مضمون — لكنه لن يشارك في مواجهة ليفربول

واندلاع الحرب الأهلية عام 2011 زاد من هشة العلاقات؛ استغلت فصائل متطرفة، وبالأخص تنظيم الدولة وجبهة النصرة، حالة التهميش البدوية لتجنيد عناصر وإرساء نقاط قوة في الصحراء السورية. ورغم أن ليس كل البدو تحالف مع هذه الفصائل، فإن وجود جماعات من البدو مرتبطة بجماعات إسلامية مسلحة زاد من مظنة الدروز لتهديد أمني. ومجزرة السويداء 2018 التي نفذتها داعش بتواطؤ خلايا نائمة قرب مناطق بدوية، عززت سردية الخيانة. استغلال التطرف السياسي لسخط البدو ساهم في تفكك علاقات كانت هشة أساساً.

الانهيار الاقتصادي والضغط المناخي
بينما مهدت خلافات الماضي واستغلال الدولة الأرضية للصراع، فإن الانهيار الاقتصادي والضغوط البيئية الراهنة فاقمت التوترات بين الدروز والبدو في السويدا. الحرب دمرت الاقتصاد السوري وأثّرت بشكل حاد على الجنوب الذي طالما حُرم من رعاية مركزية. بات الاعتماد على سبل العيش لا يقوم على العمل الرسمي أو الزراعة وحدها، بل على اقتصاديات غير نظامية تتقاطع وتتنافس بطرق عنيفة.

غياب الخدمات العامة جعل أجزاء واسعة من الجنوب تعتمد على طرق تهريب تمر عبر الحدود الأردنية المنفتحة نسبياً؛ ينقل عبر هذه الممرات الوقود والسموم والسلع الأساسية.

التحكم بمعبر أو طريق تهريب يمكن أن يمثّل الفرق بين البقاء والفقر المدقع. بالنسبة لفصائل درزية في المحافظة ولجماعات بدوية تعمل على حواف الصحراء، تحول هذا إلى صراعات على الأرض تُلبس لبوس الأمن أو الشرف القبلي. هي مباريات استراتيجية على حرية الحركة والوصول إلى الموارد؛ مجموعة بدوية تُتهم بالتنسيق مع مهربين قد تصطدم بميليشيا درزية تحاول فرض سلطتها، أو العكس. تتوالى اتهامات بالخيانة وعمليات انتقام وإغلاق طرق. ما يُرى خارجياً كعنف طائفي هو في الواقع تنازع على غنائم اقتصادٍ غير رسمي في منطقة خارج نطاق القانون.

يقرأ  منظمة حقوق مدنية إسرائيلية تطالب بفتح تحقيق مع قائد الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية للاشتباه بارتكاب جرائم حرب

يتقاطع مع ذلك تزايد هشاشة النظم البيئية. جفاف متكرر دمّر سبل المعيشة التقليدية؛ انخفضت محاصيل المزارعين الدروز، ولم تعد الأراضي العشبية تكفي قطعان البدو. الإيقاع الموسمي للتعايش — رعي شتوي وزراعة صيفية — انهار. المنافسة الآن على أراضٍ متآكلة وموارد نادرة تصاعدت إلى مستوى وجودي.

في هذا السِياق، تصوير العنف على أنه نزاع طائفي بحت ليس مجرد خطأ معرفي؛ إنه خطر سياسي. مثل هذه الرواية تخدم من يربحون من التفتيت، وتبرر قمعاً يؤجل جدياً أي إصلاحات لامركزية أو جهود للمصالحة. كما تمحو تاريخاً طويلاً من التعاون والتبادل والتشارك في النضال بين الدروز والبدو، وتطمر المطالب المادية الحقيقية: حقوق أرضية مؤكدة، فرص اقتصادية مستدامة، ونهاية للهامشية السياسية المفروضة.

فهم هذا الصراع بوصفه صراعاً سياسياً واقتصادياً قبل كونه نزاعاً دينياً أو قبلياً هو الخطوة الأولى نحو إنهائه.

الآراء المعبر عنها هنا تعود لكُتّاب المقال ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

أضف تعليق