البابا ليو يجد صوته في أول زيارة خارجية له

وصل البابا ليو الرابع إلى بيروت في زيارة خارجية حملت في طياتها رسائل دبلوماسية وروحية، بعد أسبوع من غارات جوية إسرائيلية استهدفت العاصمة اللبنانية. اختياره لبنان مكانًا لمحطته الأولى في الخارج يعكس وزن المناخ الإقليمي وحساسة اللحظة.

لطالما عُرف البابا بطريقته المتأنية والمحسوبة في التصرف والكلام؛ ولذلك يبدو هبوطه في بلد يتأثر بعمق بالصراع تصريحًا قويًا، يعكس رغبته في حضور شخصي ومباشر في ساحات التوتر. قبل ذلك أمضى ثلاثة أيام في تركيا، ومن خلال مراقبة تحركاته عن قرب يتكشف تدريجيًا كيف ينوِي موازنة دوره كزعيم روحاني ورئيس دولة الفياتيكان.

تعامله مع الصحافيين يميل إلى الرقة والهدوء، وكلماته بدت دائمًا محضّرة ومدروسة. مقارنة بسلفه الذي كان أحيانا يفيض بالعاطفة في مخاطبته للإعلام، يظهر ليو أكثر تحفظًا، ما قد يقلل من احتمال وقوع ما يُعتَبَر زلات دبلوماسية تحتاج إدارة مخاطرة من الفريق المقرب له.

في إسطنبول، بدا أحيانًا وكأنه يستوعب ثقل المنصب؛ لحظات من التأثر الهادئ ظهرت عليه أثناء وقوفه في كاتدرائية الروح القدس أمام جماعة مسيحية صغيرة رحبت به بحرارة وشاركت معه الصلاة، حتى كاد أن يكظم دموعه. تذكّر هذه اللّحظة ظهوره الأول على شرفة بازيليك القديس بطرس في مايو، حين قبل المهمة الجسيمة لقيادة أكثر من مليار مؤمن.

كرجل دولة، بدا أنه غالبًا في وضع الاستماع، لكنه لم يمتنع عن إلقاء تصريحات قوية. إلى جانب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أدان الدول القوية التي تستعرض نفوذها الاقتصادي والعسكري وحمّل هذا الاستعراض جزءًا من مسؤولية تفاقم الصراعات حول العالم، مجددًا التحذير من أن “مصير الإنسانية على المحك”.

في احتفال بمرور 1700 سنة على مجلس مسيحي تاريخي في إزنيق، قال بوضوح: “علينا أن نرفض بقوة استخدام الدين مبررًا للحرب أو العنف أو أي شكل من أشكال الأصولية أو التطرف”. وعلى متن الطائرة المتجهة من إسطنبول إلى بيروت، ركّز على أن حلّ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لا بد أن يتضمن إقامة دولة فلسطينية، ملاحظًا في الوقت نفسه أن إسرائيل لم تُقْبِل بعد بهذا الحل، لكنه سارع إلى التأكيد أن الفاتيكان ما زال “صديقًا لإسرائيل” ويسعى لأن يكون صوتًا وسيطًا.

يقرأ  فوائد أم مخاطر؟دراسة تطرح تساؤلات حول صحة القلب

أولى تصرفاته في لبنان كانت الجلوس إلى جانب كبار الساسة وتذكيرهم بأن واجبهم خدمة الشعب، في بلد يرزح تحت ثقل أزمات حكم واقتصاد واجتماع. وصف البابا هدف زيارته إلى تركيا ولبنان بأنه “رسالة سلام”، وكان لبيروت خصوصية وترقّب كبيران لدى اللبنانيين والمسيحيين على حد سواء.

قال البطريرك بشارة الراعي إن الزيارة “تعني الكثير”، واعتبر أنّ أولوية البابا لزيارة لبنان رغم الحرب تمنح الأمل لشعب يشعر أحيانًا بأنه مهجور. الزيارة أعطت دفعة للمكوّن المسيحي الذي يقدّر بنحو ثلث السكان، لكن الفرح كان عموميًا إذ أعلنت عطلة وطنية لمدة يومين واستقبلته طوائف متعددة.

حتى حزب الله، الذي تُدرجه دول عدة على لائحة التنظيمات الإرهابية، أبدى ترحيبًا في رسالة مفتوحة تحدثت عن “ترحيب كامل” و”تقدير عميق” لحضور البابا. وفي مشاهد من شوارع بيروت، لوّح بعض أنصاره بعلم الحزب إلى جانب الأعلام اللبنانية والفاتيكانية عندما كانت موكبته تنطلق من المطار.

قابل البابا في لبنان زعماء مسيحيين وإسلاميين ودروز، مؤكّدًا دوره كجسر بين الشعوب والأديان والمذاهب المسيحية، ومحاولًا أيضًا احتواء الانقسامات داخل الكنيسة الكاثوليكية بين تيار التقدمية والمحافظة.

لكن حدود هذا الطموح للتلاقي كانت واضحة. في تركيا، غاب ممثل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية عن احتفالية تهدف لإظهار الوحدة بين التقاليد المسيحية المختلفة، ما يعكس استمرار التوترات بين الكنائس الوطنية. كما لم تخلُ الزيارة من انتقادات: بعض المراقبين اعتبروها تقصيرًا لعدم توجيه رسالة علنية قوية إلى أردوغان بخصوص قمع المعارضة وسجن الصحافيين، وآخرون في لبنان استاءوا لأن البابا لم يزر المناطق الأكثر تضررًا بالحرب.

قال غرييس جبور، القادم من بلدة سرده المسيحية قرب الحدود الإسرائيلية: “لا أحد سأل عنا”، وأضاف أنّ الأهالي منهكون وأنهم شعروا بأن آثار النزاع أعادتهم عقودًا إلى الوراء، دون أن يكونوا في حسابات الزيارة؛ تصريحات تعكس إحباطًا شائعًا في الجنوب.

يقرأ  المحكمة: ألمانيا مخوّلة تعليق برامج التأشيرات للأفغان المعرضين للخطر

من نواحٍ إنسانية، ما زال البابا رجلاً من الجانب الجنوبي لشيكاغو يكتسب ببطء تجربة منصب لن يُحتمل فيه الخطأ. يختلف عن فرانسيس في أسلوبه: لا يبدو قائدًا يسعى لزلزلة الأمور بسرعة، لكنه بمنأى عن الجمود، إذ بدا في رحلته الأولى الخارجية إنه يجد صوته على المسرح الدولي بوضوح متزايد.

في المجمل، تمثل زيارته محاولة متأنية للموازنة بين رسالة روحية ومهام دبلوماسية مع تلمّس حدود النفوذ والقدرة على التأثير في أزمات معقدة، ويظلّ السؤال عن ما إذا كان هذا الأسلوب الهادئ كافٍ ليتحول إلى فعل ملموس في ميادين الصراع معلقًا على أجندة الأيام القادمة.

أضف تعليق