قبل خمسعشر عاماً بالضبط، أحرق نفسه محمد بوعزيزي في تونس، فتفجرت حركة احتجاجية عربية غير مسبوقة عبّرت عن رغبة واسعة في أشكال حكم أكثر ديمقراطية.
في مشاهد استثنائية، خرج ملايين المحتجين في عدة دول مطالبين بالإطاحة بزعماء سلطويين حكموا لعقود، متحدّين أنظمة اتصفَت بالقمع والفساد والإقصاء.
تمحورت شكاوى المتظاهرين حول هياكل سلطة مركزية أنتجت الفساد والظلم وركّزت الثروة في أيدي قلة. وما تلا ذلك لم يكن تمرداً إقليمياً عابراً فحسب، بل مطالبَ تاريخية للكرامة والمساءلة والحكم الديمقراطي.
ردّت الأنظمة بأساليب قاسية — قُتل واعتُقل واعتُدي على عدد كبير من المتظاهرين — لكن الحركة المؤيدة للديمقراطية حققت نجاحات أولية مهمة.
خلال أشهر قليلة سقط أربعة ديكتاتوريين طالما حكموا بلدانهم: زين العابدين بن علي في تونس، حسني مبارك في مصر، معمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن.
في عدد من الدول — مثل البحرين والجزائر والعراق — نجحت الأنظمة في قمع الاحتجاجات قبل أن تكتسب زخماً حقيقياً.
أدت الحركات الاحتجاجية في دول أخرى إلى إصلاحات محدودة أو، كما في حالة سوريا، إلى حرب أهلية مطوّلة بلا تغييرٍ فوري في النظام.
وانهارت ليبيا واليمن، مثل سوريا، إلى صراعات عنيفة.
مصر وتونس كانتا النموذجين الوحيدين من دول الربيع العربي القادرتين على تسجيل نجاحات نسبيّة على المدى الأطول — إذ أطاحت كلتاهما بأنظمة الحكم السائدة بسرعة وشرعتا تقريباً فوراً في انتقالات ديمقراطية.
ورغم النتائج المختلطة، رأى المراقبون عموماً في الربيع العربي لحظة ثورية ديمقراطية لمنطقة طالما غرقت في الطغيان. غير أنه بعد خمسة عشر عاماً يتّضح أن المطالب الشعبية بالديمقراطية استمرت، بينما تعلمت الأنظمة السلطوية كيف تمنع تكرار نجاح مثل هذه الانتفاضات.
قضيّتا مصر وتونس
في كل من مصر وتونس بدا الانتقال إلى الديمقراطية قائماً في البداية: تشكّلت جمعيات تأسيسية، وكتبت دساتير جديدة، ونشأت أحزاب ووسائل إعلام جديدة، وانتُخِب قادة سياسيون جدد.
وبشكل بارز، اكتسبت أحزاب مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين نفوذاً سريعاً، فالجماعة كانت مُنظمة جيداً في أجزاء كبيرة من المنطقة.
رأى بعض المراقبين في صعود الإسلاميين الوسطّيين أمراً طبيعياً، بل إيجابياً، في حين اعتبره آخرون مصدر قلق.
بعيداً عن الجدل حول مزايا أو مساوئ الإسلام السياسي، كانت مصر وتونس تُعدّان في البداية نماذج واعدة لتحوّل ديمقراطي عربي، لأن ذلك أوحى بأن السلطوية ليست قدراً محتومًا.
ومع أن الانتقالات كانت محفوفة بتحديات وأزمات حادة في أحيان كثيرة، أظهرت كلا الدولتين أن المجتمعات العربية الحديثة قادرة على بناء أنظمة ديمقراطية، وإن كانت هشة وغير كاملة.
الأهم من ذلك، أن نماذج مصر وتونس دلّت على أنّ الشعوب العربية متعطّشة للديمقراطية — حيث كانت نسب الإقبال على التصويت في البلدين مماثلة أحياناً لمثيلاتها في بعض الديمقراطيات الغربية الراسخة.
غير أن المظاهر وأرقام المشاركة الانتخابية كانت مضللة إلى حد ما، وخصوصاً في مصر، حيث فاز حزب الحرية والعدالة، المرتبط بجماعة الإخوان، وممثلوه في استفتاءات وانتخابات شملت الرئاسة، لكنهم لم يتولّوا السلطة فعلياً.
ما يُسمى “الدولة العميقة” — الجيش والشرطة وأجهزة المخابرات والسلطة القضائية ووسائط الإعلام — لم تغب عن المشهد السياسي تماماً.
وبنجاحٍ فعّال، عرقلت الطبقة القديمة عمل مجلسين منتخبين، ثم تعاونت في صيف 2013 مع تيار ليبرالي مناهض للإسلام السياسي للإطاحة بأول رئيسٍ مصري منتخب ديمقراطياً، محمد مرسي.
مثل الانقلاب المصري عام 2013 انعطافاً ديمقراطياً كاملاً، وعودة إلى حالة ما قبل 2011، وربما إلى منوال أكثر الاستبداداً.
سريعاً ما رسّخ عبدالفتاح السيسي، الذي كان قد شغل منصب وزير دفاع مرسي، سلطته. أدار النظام عمليات قتل جماعي واعتقالات واسعة وحظر أحزاب سياسية وإغلاق وسائل إعلام وإجراء انتخابات صورية، كما أشرف على إعادة صياغة الأطر القانونية والسياسية في مصر بشكل جذري. ويرى الخبراء أن النسق السلطوي الذي بناه السيسي أكثر استبداداً من نظام مبارك.
دامت تجربة تونس الديمقراطية أطول قليلاً من مصر لكنها سرعان ما انزلقت إلى تراجع مماثل. في 2014 أُقرت دستوراً جديداً وانتُخب الباجي قائد السبسي أول رئيس ديمقراطي بعد الثورة، لكن انتخاب قيس سعيد في 2019 شكل بداية نهاية تلك التجرب —انتهت التجرب بطريقة ماثرة— وفي يوليو 2021، بعد نحو عامين من توليه السلطة، أعلن سعيد حالة طوارئ وفصل رئيس الحكومة وعلق أعمال البرلمان، ومنذ ذلك الحين صبّ مزيداً من السلطات تحت يد الرئاسة.
دروس مستفادة
يبدو واضحاً أن أنظمة مصر وتونس استخلصت درساً واحداً على الأقل من احتجاجات 2010–2011: لم تكن أنظمتهم قمعية بما فيه الكفاية. أعيدت هندسة الأطر السياسية والقانونية بدقة لمنع أي شكل من أشكال العصيان المدني الذي شهدناه آنذاك. لم يعد يُسمَح بأدنى مستويات الاحتجاج أو المعارضة. في مصر، تحظر قوانين التظاهر لعام 2013 المظاهرات العامة، وتعتبر قوانين الإرهاب لعام 2015 أي فعل «ترويع» يُعرِّض «الوحدة الوطنية» أو «يفرض اضطراباً على النظام العام» أو «يعرقل عمل السلطات» عملاً إرهابياً. كما ثبت أن النظام العسكري ما بعد 2013 لا يترك شيئاً للصدف: تمت صناعة انتخابات صورية، ومرر قانوناً انتخابياً يضمن ولاء البرلمان للرئاسة، ونُقِّح الدستور لتمديد حكم السيسي حتى 2030. وإن احتوت الثغرات محاولات لمرشحين معارضين، فقد استخدم السيسي قبضته لاعتقالهم أو إجبارهم على المنفى الدائم.
سار سعيد في تونس على خطى تشبه إلى حد بعيد خطوات السيسي؛ فمع أنه لم يصل إلى مستوى القمع المصري، أعاد كتابة الدستور، وعزّز صلاحيات الرئاسة وألغى ضوابط وتوازنات السلطة. بيانات مؤشر بيرتلزمان للتحول تُظهر تراجع تونس في مؤشرات سياسية واقتصادية إلى مستويات ما قبل الربيع العربي.
شقوق في النظام
بعد خمسة عشر عاماً لا تزال المشكلات الجذرية التي أدت إلى الاحتجاجات —الفساد والظلم والصعوبات الاقتصادية— قائمة، وربما أصبحت أكثر إلحاحاً. الدول العربية تسجل درجات متدنية في مؤشرات مدركات الفساد، وتبقى كثير من الأنظمة غارقة في مظاهر الظلم. من بين 21 دولة عربية قيّمتها مؤسسة فريدوم هاوس مؤخراً لم تُصنّف أي منها «حرة»، ومن بين تسع دول عربية قُيِّمَت في 2025 من قبل مشروع حكم القانون العالمي، احتلت معظمها مراكز متأخرة عالمياً.
اقتصادياً، وباستثناء دول الخليج، تستمر المنطقة العربية في غرقها بمعاناة اقتصادية؛ فالناتج المحلي الإجمالي للفرد يبقى منخفضاً في معظم الدول غير الخليجية، وتُشير الأمم المتحدة إلى أن نقص الغذاء والجوع ما زالا يمثلان مشكلات كبيرة في أجزاء واسعة من المنطقة. تأتَى مشكلات مصر وتونس كمؤشرات لحالة أوسع: في مصر منذ انتفاضة 2011، توسعت إمبراطورية الجيش الاقتصادية وتزايدت فجوات التفاوت بينما ارتفعت معدلات التضخم والفقر. وفي تونس، تشير تقارير عدة، من بينها تقرير لمعهد كارنيغي، إلى زيادة ضخمة في الدين الداخلي و«انهيار النمو»، إضافة إلى تراجع الأجور الحقيقية وارتفاع البطالة.
الديمقراطية: الفيل في الغرفة
ما يربك الأنظمة أكثر هو أن شعوبها لا تزال تَبتغِي الحكم الديمقراطي بأغلبية ساحقة؛ فاستطلاعات الرأي تظهر أن أكثر من سبعين بالمئة من المجيبين العرب يؤيدون الديمقراطية مقابل نسبة صغيرة ترفضها. تُقيّم غالبية المواطنين مستويات الديمقراطية في بلدانهم سلبياً، ويربطونها بالحرية والمساواة والعدالة، ويحملون نظرة إيجابية تجاه أحداث الربيع العربي. نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة من معاهد مثل الباروميتر العربي تؤكد اتجاهات مماثلة.
الربيع العربي لم ينتهِ
الإطاحة ببشار الأسد ونفيه في ديسمبر 2024، بعد نحو 14 عاماً على اندلاع الاحتجاجات ضده، كانت حدثاً كارثياً بل مؤشراً على أن الحديث عن موت الربيع العربي كان متسرعاً. وتُظهر احتجاجات جيل زد في المغرب أن أعداداً كبيرة من الشباب قادرون ومستعدون للقتال من أجل التغيير. قد يكون الأمر مسألة وقت قبل بلوغ نقطة الغليان واندلاع جولة جديدة من الاحتجاجات.
الأنظمة مدركة للمخاطر؛ فالنمط المصري مثال واضح: في السنوات الأخيرة حذّر السيسي المصريين مراراً من التظاهر، وصرّح علناً أن تكرار انتفاضة 2011 «لن يحدث مرة أخرى»؛ والبارانويا حقيقية — الدولة العميقة المصرية لا تبدو راغبة في المجازفة بفتح الساحة السياسية. دفعت الآلة الانتخابية جهودها إلى أعلى مستوى مسموح به، وتعرف تقارير عن سعي لتمديد حكم السيسي إلى أجل غير مسمى. ولم تكتفِ القاهرة بقمع المعارضة داخلياً، بل سعت لملاحقتها خارج البلاد: أغلقت منصات إعلامية معارضة في الخارج وسعت لاستصدار طلبات تسليم لشخصيات معارضة مؤثرة. مثال على ذلك احتجاج سلمي نفذه الشاب المصري أنس حبيب أمام السفارة المصرية في لاهاي هذا العام، حيث أُبلغت بعثة السفارة هناك بالتحرك لاحتجاز المتظاهرين، وفي رد فعل يبدو انتقامياً جرى اعتقال عم أنس المسن في مصر.
على نطاق أوسع، كثّفت دول عربية تعاونها الأمني الداخلي، وباتت تسعى بنشاط لتسليم مطلوبين بين بعضها البعض. تكشف هذه الإجراءات المتطرفة عن الارتباك والخوف: تبدو الأنظمة العربية مقتنعة أن ما نشهده هو استراحة مؤقتة لا خاتمة للربيع العربي. والتاريخ يشير إلى أن استمرار الحركة نادراً ما يُعلن عنه مسبقاً؛ فالناس هم الذين يملكون الكلمة الأخيرة.