العقوبات ليست بديلاً إنسانيًا عن الحرب — الصحة

في الدبلوماسية الدولية تُصوَّرُ العقوبات الاقتصادية غالبًا كبديلٍ «نظيف» وإنساني للحرب، كطريقة متحضِّرة للضغط على الحكومات لِمُرُوعِها بالامتثال للقانون الدولي دون إراقة دماء. لكن هذه الحكاية المواسية تُخفي حقيقة مدمّرة: فالعقوبات قادرة على تدمير صحة ورفاه الناس العاديين. فعلى الرغم من أنها تستهدف إضعاف الأنظمة، إلا أنها كثيرًا ما تعرقل قدرة الدولة المستهدفة على توفير الرعاية الأساسية للمواطنين الذين تدّعي تلك الإجراءات حمايتهم. الآليات المفترضة لحماية المدنيين والسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول تنهار في الغالب، تاركةً الأكثر هشاشة يدفعون الثمن الأعلى لقرارات سياسية تُتخذ بعيدًا عن متناولهم.

إن النتيجة هي شكل من أشكال الحرب الاقتصادية التي تقتل ليس بالقنابل أو الرصاص، بل عبر تآكل منظومات الرعاية، ونقص الأدوية، وفقدان الكرامة الإنسانية.

مراستنا الأخيرة في مجلة ذا لانست تقيّم هذه الحقيقة في سياق قرار مجلس الأمن الدولي في 28 سبتمبر 2025 بإعادة فرض عقوبات متعددة الأطراف على إيران. لم نُعبر في المقال عن موقف سياسي حيال قرار مجلس الأمن نفسه؛ بل ركزنا حصراً على العواقب المحتملة لهذه الخطوة على سكان إيران، لا سيما في ضوء الآثار الصحية الجسيمة التي شهدتها البلاد تحت وطأة العقوبات السابقة. ومن خلال الرجوع إلى أدلة من حقبة ما قبل 2015، بيَّنت تحليلاتنا كيف حطَّمت تلك الإجراءات منظومة الرعاية الصحية الإيرانية وكشفت عن فشل بنيوي أعمق داخل نظام العقوبات الدولي في حماية الحق الأساسي في الصحّة.

العقوبات ليست أدوات دبلوماسية محايدة فحسب؛ إنها تدخلات في الصحة العامة بعواقب قاتلة.

العقوبات قد تُقصّر الحياة حرفياً

أثر العقوبات على الصحة العامة ليس افتراضًا؛ بل يُقاس على مستوى سنوات الحياة المفقودة. فقد أظهرت دراسة تحليلية شاملة عبر دولٍ عديدة ارتباطًا مباشرًا بين فرض عقوبات الأمم المتحدة وانخفاض ملحوظ في متوسط العمر المتوقع. في المتوسط، تشهد الدول الخاضعة لمثل هذه العقوبات انخفاضًا بنحو 1.2 إلى 1.4 سنة في متوسط العمر المتوقع، مع تأثير غير متناسب على النساء.

يقرأ  عشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين يتضورون جوعًا في مخيمات الخيام بغزة — تغطية عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

هذا ليس ضررًا عرضيًا؛ إنه دليل على أن العقوبات تعمل كسلاح ضد صحة مجموعات كاملة من السكان. الحرمان يتسلل ببطء وغالبًا بصورة غير مرئية: المستشفيات تنفد أدويةً، وتتأخر العلاجات، ويموت المرضى ليس بسب الأمراض بحد ذاتها بل نتيجة سياسات تجعل الرعاية غير متاحة.

سراب الاستثناءات الإنسانية

نظريًا، تتضمن أنظمة العقوبات دائماً «استثناءات إنسانية» للسماح باستيراد السلع الأساسية كالطعام والدواء. عمليًا، كثيرًا ما تظل هذه الضمانات حبرًا على ورق. كما أبرزت مراسلتنا في ذا لانست، خلال العقوبات السابقة على إيران لم يكن هناك آلية أممية مخصصة للتحقق من فاعلية هذه الاستثناءات على أرض الواقع.

النتيجة كانت كارثية: تعطلت واردات الأدوية وارتفعت الأسعار بشكل جنوني أحيانًا — إذ سجّلنا ارتفاعات تصل إلى 300% لبعض أدوية الصرع. واضطر ملايين المرضى إلى التخلي عن علاجات موثوقة، بينما غزت الأسواق أدوية مغشوشة ومنتهية الصلاحية، مهددةً حياة عدد لا يُحصى من الناس. لم تكن هذه أخطاءً غير مقصودة؛ بل كانت نتائج متوقعة لنظام عقوبات صُمم بلا محاسبة أو مراقبة فعّالة.

ثغرة مؤسساتية

الهيئات الأممية المكلفة بالإشراف على عقوبات إيران ركزت بضيّق نظرتها على الامتثال التقني، مثل تتبُّع جوانب ملف التخصيب النووي، فيما أغفلت تقييم كيفية تأثير هذه الإجراءات على إمكانية وصول الناس للأدوية والمعدات الطبية والرعاية الصحية عمومًا. تقارير هذه اللجان خلت من تقييم منهجي للأثر الإنساني للعقوبات، ما كشف عن ثغرة مؤسسية مستمرة. لقد رُصد الامتثال التقني حتى آخر جهاز طرد مركزي بينما تُرك معاناة الإيرانيين العاديين دون تسجيل — وهذا النمط لا يقتصر على إيران، بل يعكس سياسة عقوبات عالمية تُعلي الهدف السياسي على حساب الكلفة البشرية.

الضرر الخفي للامتثال المبالغ فيه

التأثيرات السلبية لا تنتهي عند القرارات الرسمية؛ فظاهرة «الامتثال المبالغ فيه» تزيد الأزمة الإنسانية تعقيدًا. تنبثق هذه الظاهرة حين تتصرّف شركات وبنوك بحذرٍ مفرط، فترفض إجراء معاملات قانونية مسموح بها فعليًا، بما في ذلك تجارة الأدوية والمستلزمات الطبية، خشية الوقوع في خرق تعقيدات القواعد. أدى هذا الحذر المفرط إلى رفع الأسعار، وتغذية الفساد، وفتح الباب أمام بدائل منخفضة الجودة ومغشوشة، بالإضافة إلى ظهور وسطاء يدّعون الخبرة في نقل الإمدادات الطبية تحت ظل العقوبات، مما زاد التكاليف والمخاطر. وفي بعض الحالات، وُقعت موزعات شرعية في أفعال غير قانونية عن غير قصد.

يقرأ  بوتين يحمّل الغرب مسؤولية حرب أوكرانيا خلال قمة منظمة شنغهاي للتعاون بقيادة الصين — أخبار الحرب الروسية الأوكرانية

تُفضي هذه الديناميكية إلى تشديد الحصار على أنظمة الرعاية الصحية لبلدٍ ما حتى حيثُ تفترض الاستثناءات الإنسانية وجود حماية. أصبح الامتثال المبالغ فيه أحد أكثر جوانب أنظمة العقوبات الحديثة إيلامًا وأقلها خضوعًا للمحاسبة، إذ يقطع الوصول إلى الرعاية المنقذة للحياة بينما يبرئ صانعو القرار أنفسهم من المسؤوليه.

دعوة لسياسة خارجية تأخذ الصحة بعين الاعتبار

الأدلة واضحة لا لبس فيها. من دون ضمانات قوية ومراقبة فعّالة، تتحول العقوبات إلى أداة غليظة تُلحق معاناة هائلة بمن هم الأقل قدرة على التحمل. هذه ليست آثارًا جانبية مؤسفة، بل عواقب مباشرة ومتوقعة لسياسات تُطبّق من دون مراعاة تكلفتها الإنسانية.

الدروس المستفادة من إيران ومن عقود من تجارب مماثلة تُشير إلى ضرورة ألا تُفروض العقوبات الاقتصادية دون أن تترافق مع أنظمة مستقلة تحمي الحق في الصحة. يشمل ذلك إنشاء قنوات دفع إنسانية فعالة، ومراقبة توافر الأدوية واللوازم الطبية في الزمن الحقيقي، وتكليف هيئة فنية مستقلة قادرة على تقييم الأثر الصحي الكامل للعقوبات على السكان المدنيين.

تُبرَّر العقوبات في كثير من الأحيان باسم حقوق الإنسان، لكنها قد تهدِّد بصمت نفس الأرواح التي تدّعي الدفاع عنها. على المجتمع الدولي أن يعترف بأن حماية الصحة ليست خيارًا بل واجبٌ أساسي. إذا ظلت العقوبات جزءًا من الدبلوماسية العالمية، فلا بد من إعادة تصوّرها بحيث تكون الصحة العامة في صلبها لا أن تترجلها وتتركها تتآكل.

الآراء المعبر عنها في هذا المقال هي آراء المؤلف ولا تعكس بالضرورة سياسة الجزيرة التحريرية.

أضف تعليق