انطلاق جهود التعافي في مواقع التراث المتضررة جراء الحرب في غزة

استُهدف المسجد العمري الكبير في مدينة غزة، الذي يعود تاريخه إلى العصور الوسطى، من قبل قوات الجيش الإسرائيلي خلال عامي الحرب الماضيين.

بمعاول وعربات يدوية، يزيل عشرات العمال الفلسطينيين المرتدين خوذات وسترات عاكسة أنقاض أقدم وأكبر مسجد في القطاع.

لم يبق من المئذنة المثمنة الشكل للمسجد سوى جذع مكسور وبعض الجدران الخارجية، بعد أن طالها قصف الجيش الإسرائيلي خلال سنتَي القتال مع حركة حماس.

منذ بدء وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الولايات المتحدة قبل ما يقرب من ثمانية أسابيع، انطلقت عمليات إزالة وفرز الحجارة، غير أن أعمال الترميم الفعلية لم تنْطلق بعد. إسرائيل تمنع دخول مواد البناء إلى غزة عبر المعابر، وتبرر ذلك بأنه إجراء متوافق مع بنود الهدنة.

يقول حسني المظلوم، مهندس يعمل مع “ريواق” المنظمة الفلسطينية للتراث الثقافي: «التحديات التي نواجهها تبدأ بنقص المواد — من حديد ومواد بناء. ثم نستخدم أدوات بدائية… ونكون شديدي الحذر لأن هذه الحجارة عمرها ألف ومئتا أو ألف وثلاثمائة سنة». وأضاف أن العمال يملكون “أدوات بدائية” فقط ولا مواد لازمة لإعادة الإعمار.

في مكتبها الضيق القريب، تتعامل حنين الأمسي مع مهمة صعبة بمقاييس أخرى، وهي تُفرّغ شظايا مخطوطات إسلامية نادرة أعيد انتشالها من غرف التخزين في مكتبة المسجد العمري التي تعود للقرن الثالث عشر.

تشرح المحافظة المدربة دولياً عبر رابط مرئي: «كما نقدم الإسعافات الأولية للناس، نفعل الأمر ذاته للمخطوطات». وتروي أن شاباً من فريقها خاطر بحياته لاستعادة بعض المخطوطات حين كانت البلدة القديمة تتعرّض لقصف عنيف في بداية الحرب، لكن مخزوناً ثميناً من الأعمال الإسلامية المبكرة ظل محتبساً داخل المبنى المدمر.

منذ الهدنة السابقة في يناير التي دامت شهرين، قادت الأمسي فريقاً استعاد ما أمكن من المخطوطات بتمويل من المجلس الثقافي البريطاني، وشرعوا بنقل الأنقاض يدوياً في بدايات العمل.

يقرأ  الشرطة البريطانية تطلق النار على رجل يشتبه بتورطه في دهس وطعن قرب كنيس

وكانت اليونسكو قد وثّقت أضرار الاثار في 145 موقعاً دينياً وتاريخياً وثقافياً في غزة خلال الحرب، اعتماداً في الغالب على تقييمات من صور الأقمار الصناعية، بينما تضع جمعيات محلية أرقام الأضرار على مستوى أعلى بكثير بعد مسوحات ميدانية.

رغم الخسائر الفادحة، تقول الأمسي إن نحو 148 من أصل 228 مخطوطة نجت إلى حد ما، وكان لذلك الفضل الكبير لجهودها ما قبل الحرب بالتعاون مع المكتبة البريطانية لحفظ وأرشفة ورقمنة الأعمال—حيث خُزنت المخطوطات في صناديق خالية من الحموضة وضُمنت في خزائن حديدية.

«بعض المخطوطات بدت وكأنها لم تبقَ تحت الأنقاض 700 يوم»، تقول الأمسي، «وأخرى خرجت وكأن طفلاً مزّقها إلى أجزاء». وتُظهر صندوقاً يحوي قصاصات محترقة مغطاة بخط عربي دقيق.

في الأيام الأخيرة، تمكن فريق الأمسي من استخدام معدات ثقيلة لكشف مزيد من المخطوطات المتضررة بشدة، وتبيّن الآن أن أرشيف المكتبة—الذي يعد سجلاً لا يقدر بثمن للتاريخ الفلسطيني ويحتوي على سجلات عثمانية عديدة—قد احترق بالكامل.

يمتد تاريخ غزة لأكثر من خمسة آلاف عام، وقد تركت حضارات متعددة بصماتها: الكنعانيون والمصريون القدماء والفلستيون والآشوريون والفرس واليونانيون والهاشمونيون اليهود والرومان والبيزنطيون والمماليك والعثمانيون.

يتهم الفلسطينيون إسرائيل باستهداف مواقعهم التراثية عمداً، واصفين ذلك جريمة حرب. وترفض إسرائيل هذه الاتهامات وتقول إن عملياتها تأتي في إطار القانون الدولي.

تُلقي قوات الدفاع الإسرائيلية باللائمة على حماس في تدمير آثار ومآثر مهمة، زاعمة أن الجماعة المسلحة كانت تعمل «بالقرب من، أو تحت، مواقع التراث الثقافي». وبالنسبة للمسجد العمري الكبير تقول القوات إنها قصفت «عمق نفق ومحور نفق إرهابي».

في موقع آخر من البلدة القديمة بمدينة غزة، يزيل فريق من الشباب دلاء رمل وملاط متفتت من ما تبقى من قصر الباشا الذي يعود إلى نحو ثمانمائة عام، كاشفين عن أنماط هندسية أرضية فسيفسائية.

يقرأ  بعدُ أسبوعٍ من الفيضانات وسطُ المكسيك لا يزال يكابد آثارَ الدمارِ

يقول عصام جحا، مدير مركز حفظ التراث الثقافي الذي يتخذ من الضفة الغربية المحتلة مقراً ويُنسق العمل عن بعد، إن «ما يُنجز هو الحد الأدنى فحسب. لإجراء تدخلات أساسية نحتاج إلى أسمنت أو ملاط جيري غير متوفر».

هذا الحصن التاريخي استضاف نابليون بونابرت عام 1799، وفي الأزمنة الأخيرة جُدّد ليصبح متحفاً يعرض قطعاً أثرية ثمينة من حفريات قادتها البعثات الفرنسية.

يقول الدكتور حمودة الدهْدار، خبير التراث الثقافي وقائد فريق الترميم الميداني: «نتعامل مع بناء يعبر عن هوية وذاكرة الشعب الفلسطيني. نحن مصرّون على الحفاظ على ما تبقى من هذه البقعة المهمة».

قالت قوات الدفاع الإسرائيلية إنها لا تملك معلومات توضح سبب استهداف قصر الباشا خلال الحرب، أما السكان المحليون فيرون أنه تعرّض لضربة جوية إسرائيلية ثم جُرّف لاحقاً.

يبحث عاملون مدرَّبون الآن عن نحو 17,000 قطعة كانت مخزنة في الموقع؛ معظمها سحق أو نُهب. وحتى الآن استُعيدت من الأنقاض نحو ثلاثين قطعة فقط، من بينها جزء من غطاء تابوت بيزنطي وجرار فخارية.

توفر الأعمال الجارية فرص عمل ملحّة في غزة، وتحصل المجموعات الثقافية المحلية على دعم من منظمات دولية غير حكومية.

منحت مؤسسة “أليف” المقامة في جنيف 700,000 دولار لأعمال الطوارئ في غزة منذ عام 2024، وتفيد أن خبراءها على اتصال شبه يومي مع الفرق على الأرض.

ويقول المجلس الثقافي البريطاني إنه بعد الهدنة، يقوم شركاؤه بإجراء تقييمات جديدة للأضرار وفحوصات سلامة «لفهم أي أعمال تراثية مستقبلية قد تكون ممكنة».

من جهته، يقول عالم الآثار الغزّي البارز فاضل العَطّول، المتابع من سويسرا حيث يقيم حالياً، إن هناك مواقع أثرية كثيرة لا يمكن الوصول إليها بسبب تواجد الجيش الإسرائيلي. ويستشهد بمقابر رومانية والكنيسة البيزنطية شرقي مخيم جباليا في الشمال—مواقع كان يقود فيها حفريات مهمة—تقع ضمن 53% من القطاع التي لا تزال تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة.

يقرأ  لوحة فيليب جاستون تُشعل حوارًا جدليًا في متحف محلي

أما موقع ميناء أنثيدون اليوناني القديم في غزة فبات محجوباً بآلاف النازحين المخيمين هناك، ما يعوق تقييم الأضرار الداخلية ويحول دون أي عمل ميداني في الوقت الراهن.

أشارت واشنطن إلى أنها تتوقع إحراز تقدم قريب في مراحل وقف إطلاق النار التالية الخاصة بملفات حساسة حول حكم ما بعد حماس والأمن وإعادة الإعمار.

بينما يشعر الغزيون بقدر كبير من عدم اليقين إزاء المستقبل، يرى كثيرون أن بداية العمل في مواقع التراث الأيقونية تُشكل بارقة أمل صغيرة.

تقرير إضافي من مالك حسونة في القدس.

أضف تعليق