تدخل المتجر لشراء زجاجة حليب سعتها ليتان بقيمة 2 وتدفع 3 دولارات. لكن الشّخص الذي سبقك في الطابور دفع 3.50 دولارًا، والذي تلاه دفع دولارين فقط. ماذا لو كانت هذه الأسعار تُحَدَّد بناءً على بياناتك الشخصية أو ظروفك، أو حتى مستوى شحن بطارية هاتفك؟
قد يبدو ذلك خيالًا علميًّا، لكن الواقع أقرب إلى ذلك مما يعتقد الكثيرون.
في يوليو كشفّت شركة دلتا إيرلاينز الأميركية أن نحو ثلاثة بالمئة من تسعير رحلاتها الداخلية يتم تحديده بواسطة الذكاء الاصطناعي، مع وعد برفع هذه النسبة إلى 20 بالمئة قبل نهاية العام؛ لكنها لم تشرح بالتفصيل كيف يُطبَّق ذلك. أثار الإعلان مخاوف لدى المستهلكين من أن شركة الطيران قد تستخدم بيانات العملاء لتفصيل أسعار تمييزية. ردَّ أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي مارك وارنر، روبن جاليغو وريتشارد بلومينثال بمراسلة تطالب دلتا بتوضيح خططها المعلنة لتطبيق ما أُطلق عليه «التسعير الديناميكي» المدفوع بالذكاء الاصطناعي.
وجاء في المراسلة أن ممارسات دلتا الحالية والمخطط لها للتسعير المُفصَّل قد تثير مخاوف تتعلق بخصوصية البيانات وستؤدي على الأرجح إلى رفع أسعار التذاكر حتى نقطة «الألم» الشخصية لكل مستهلك، في وقت تعاني فيه الأسر الأميركية من ارتفاع التكاليف.
رغم عدم نفي دلتا لاستخدامها الذكاء الاصطناعي في التسعير، أوضحت للشيوخ أنها لا تستخدمه لممارسات تسعير تمييزية أو افتراسية.
وقالت لينا خان، الرئيسة السابقة للجنة التجارة الفيدرالية، إن بعض الشركات قادرة على استغلال بياناتك الشخصية للتنبؤ بما تسميه «نقطة الألم» — أقصى سعر أنت مستعد لدفعه مقابل سلعة أو خدمة معينة. في يناير، نشرت لجنة التجارة الفيدرالية تقريرًا عن دراسة أجرتها في يوليو 2024 حول «تسعير المراقبة». وجدت الدراسة أن الشركات يمكنها جمع البيانات مباشرة عبر تسجيل الحسابات، الاشتراك عبر البريد الإلكتروني والشراء الإلكتروني. كذلك تُثبَّت بكسلات تتبع عبر وسطاء رقميين لتلتقط إشارات من جهازك مثل عنوان الـIP، نوع الجهاز، متصفح الإنترنت، تفضيلات اللغة وتفاعلات دقيقة على الموقع مثل حركات الفأرة وأنماط التمرير ومشاهدة الفيديو.
تسمى هذه الظاهرة «تسعير المراقبة».
ما هو تثعير المراقبة؟
تسعير المراقبة هو ممارسة رصد بيانات المستهلكين لتحديد أسعار مفصَّلة فرديًا بغرض تعظيم أرباح البائعين. ببساطة، تُمكِّن معرفة معلوماتك الشخصية التجار من تحميلك أعلى سعر يعتقدون أنك ستقبله.
يصف أورن بار-غيل، عالم القانون والاقتصاد في جامعة نيويورك، هذه الظاهرة بأنها شكل متقدّم من تمييز الأسعار الخوارزمي المدعوم ببيانات ضخمة، حيث يمكن للبائعين تقسيم الزبائن إلى فئات دقيقة جدًّا، كل فئة مرتبطة بسعر مختلف. وفي حالات متقدمة، يصبح بالإمكان وضع سعر مخصّص لكل مستهلك على حدة.
أظهرت اختبارات وبحوث عدة أن تطبيقات مشاركة الركوب قد تفرض أسعارًا مختلفة لنفس الرحلة وفي نفس اللحظة. على سبيل المثال، أجرى باحثون اختبارات ووجدوا أن الركاب الذين تقل بطارية هواتفهم معرضون لدفع أسعار أعلى. في مقابلة مع روبرت رايش في يوليو، قالت لينا خان: «الأدلة تُظهر أن تطبيقات النقل تفرض أسعارًا متباينة لنفس الرحلات وفي نفس الوقت. ليس واضحًا تمامًا كيف، لكن الاختبارات أظهرت أن من لديهم بطارية منخفضة على هواتفهم دُفِعوا أسعارًا أعلى».
تقرير الصحافة البلجيكية عام 2023 وجد أن نفس الرحلة عبر تطبيق أوبر قد تكلف أكثر إذا تم طلبها من هاتف نسبة شحنه 12% مقارنة بهاتف نسبة شحنه 84%. رفضت أوبر أن تكون قد استخدمت مستوى البطارية في حساب السعر، لكنها اقترحت أن التسعير الديناميكي ينبع من التوازن بين الطلب والعرض.
كيف يعمل تسعير المراقبة بالضبط؟
يمكن لتجار التجزئة تتبّع سلوكك الرقمي — ما تنقر عليه، مدة التصفح، الموقع، نوع الجهاز — ودمج ذلك مع تاريخ مشترياتك لتقييم «حساسية السعر» لديك، أي مدى تغيُّر سلوك الشراء لديك استجابة لتغيُّر الأسعار. تستخدم الأنظمة الذكية أدوات ذكاء اصطناعي لتحويل هذه البيانات إلى توصيات تسعير، بدءًا من استراتيجيات عامة على مستوى المتجر وصولًا إلى تعديلات لحظية مخصَّصة لكل مستخدم.
شمل تقرير لجنة التجارة الفيدرالية بادرة واسعة من التجار: متاجر البقالة، الألبسة، الصحة والجمال، الأدوات المنزلية، ومتاجر السلع العامة. وسرَد التقرير أمثلة على كيفية استهداف المستهلكين بطرق متعددة بدرجات متفاوتة:
– استهداف «المقامرين المترددين»: إذا تردّد زائر موقع مراهنات وبدت عليه علامات التردد، قد يظهر الموقع نوافذ منبثقة لإغراءه بالبقاء ووضع رهان.
– استهداف المشترين غير المتمرسين: قد يصنف تاجر سيارات زائرًا على أنه «مشتري سيارة للمرة الأولى» ويعرض عليه شروط تمويل أو خصومات أو خدمات صيانة تختلف عمّا يُعرض للمشترين المتمرسين.
– استهداف من يختارون «التوصيل السريع»: شخص يختار توصيلًا عاجلًا لشراء حليب الأطفال قد يُفترض أنه أقل حساسية للسعر ويُعرض عليه أسعار أعلى.
– استبعاد الزبائن المخلصين من العروض: قد يستبعد صيدلية زبائنها المنتظمين من عرض ترويجي لأنّها تراهم سيشترون بغضّ النظر عن الخصم، وتركز التخفيضات على مشترين نادرين لتجنب فقدانهم.
– تحليل السلوك الشرائي: أفعال مثل وضع منتج في سلة التسوق دون الشراء أو ترتيب المنتجات من الأرخص للأغلى يمكن أن تُفسَّر لاستخلاص حالة المستهلك العاطفية، نية الشراء، أو حساسيته المالية.
– قياس التفاعل مع الفيديو: مدى مشاهدة الزائر لمقاطع توضيحية قد يُستخدم كمؤشر على مدى قابليته لدفع سعر أعلى.
– استخدام بيانات شخصية للإعلانات الموجَّهة: جمع معلومات عن نوع بشرة المستهلكين مثلاً لاستخدامها في توجيه عروض تجميلية بحسب درجة لون البشرة.
– التسعير المبني على الموقع: عرض أسعار مرتبطة بالمتجر الأقرب لزائر الموقع.
كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي في ذلك؟
تستخدم الشركات الذكاء الاصطناعي لجمع معلومات مفصّلة — بيانات تسجيل الدخول، الموقع، سلوك التصفح، محتويات السلة المتروكة، وحتى حركات الفأرة — ثم تُدخِل هذه المعطيات في خوارزميات تحدِّد قابلية الفرد للدفع (WTP). تختبر الخوارزميات بشكل منهجي نقاط سعرية متنوعة لاكتشاف السعر الأمثل الذي يولِّد أعلى عائد. كما ظهرت وسطاء متخصصون في تقدير قابلية الدفع وبيع هذه التوقعات للتجار.
هل هذا مسموح به قانونًا؟
نعم إلى حدّ ما، لكن التساؤلات والضغوط التشريعية تتزايد. هذا العام قُدِّمت 51 مشروع قانون في 24 ولاية أميركية لتنظيم التسعير الخوارزمي، ارتفاعًا ملحوظًا مقارنة بعشرة مشاريع في 2024. تركز كثير من المقترحات على برامج تسعير الإيجار التي قد تسبّب تلاعبًا في سوق الإسكان، كما يسعى دعاة المستهلكين لوضع قيود على التسعير المستند إلى بيانات شخصية أو الموقع أو السلوك التصفحي.
ومن أبرز التطورات التشريعية:
– في 9 مايو وقّعت حاكمة نيويورك كاثي هوشول مشروع A3008 الذي يحظر التسعير الخوارزمي الشخصيّ غير المعلن عنه.
– مشروعا قانون في أوهايو، SB79 وSB328، يلزمان الشركات التي تحقق أكثر من 5 ملايين دولار بالإفصاح للمستهلكين إذا كان السعر أو شرطه ناتجًا عن خوارزمية تسعير.
– سعى مشروع قانون كاليفورنيا AB446 لمنع تسعير المراقبة القائم على البيانات الشخصية، لكنه واجه معارضة قوية وأُبطل إلى حدٍّ كبير، مع استمرار النقاش حول تشريعات أخرى.
وليس ذلك حصريًا للولايات المتحدة: في المملكة المتحدة، أتاح قانون الأسواق الرقمية والمنافسة وحماية المستهلك DMCCA منذ أبريل 2025 للهيئة التنظيمية تمكينها من تغريم الشركات حتى 10% من إيراداتها العالمية جراء ممارسات استهلاكية غير عادلة أو مضلِّلة، بما في ذلك تسعير رقمي مخفي أو متحيز.
هل فكرة تسعير المراقبة جديدة؟
الفكرة ليست جديدة بالكلية، بل تغيرت تسمياتها عبر الزمن — من «تمييز السعر» إلى «التسعير الديناميكي» وصولًا إلى «تسعير المراقبة». في 2008 أوقفت شركة نورويتش يونيون (الآن أفيفا) نظام «ادفع بحسب قيادتك» بعد مخاوف العملاء من الخوصوصية والمراقبة، وهو نظام اعتمد على تتبّع أنماط القيادة عبر أقمار صناعية وأجهزة متصلة. اليوم تقدم كثير من شركات التأمين البريطانية أجهزة تُعرَف بـ«الصندوق الأسود» للسائقين الجدد، ما يخفض الأقساط مع تحسن سلوك القيادة.
في مطلع الألفية، جربت أمازون تسعيرًا ديناميكيًا لمنتجات مثل أقراص DVD، ما أثار شكاوى واسعة ونقاشات حول العدالة والشفافية. قالت أمازون لاحقًا إن التجربة كانت اختبارًا عشوائيًا ونوّهت بتوقّفها عن البرنامج بعد اعتذار للعملاء.
كيف يمكن للمستهلكين حماية أنفسهم؟
تقرير لجنة التجارة الفيدرالية يقترح عدة خطوات لحماية البيانات: استخدام متصفحات خاصة للتسوق، رفض تتبع المستهلكين متى أمكن، حذف ملفات الكوكيز أو استخدام شبكات افتراضية خاصة (VPN) لتقليل جمع البيانات. لكن التقرير يحذّر من أن هذه الإجراءات قد تكون صعبة التنفيذ وغير كاملة الفعالية لأن تقنيات مثل بصمة الجهاز تتيح تتبّعًا أدق عبر إعدادات المتصفح والمكوّنات الصلبة والبرمجيات.
يمكن أيضًا تصفح المواقع في «الوضع الخاص» ومشاركة بيانات أقل، لكن التقنيات المتطورة تجعل الهروب الكامل من آليات تسعير المراقبة أمرًا صعبًا.
في تقرير صدر في يوليو 2024 عن منظمة Consumer Watchdog غير الربحية، دعت المنظمة المستهلكين للمطالبة بقدر أكبر من الشفافية من التجار والمطالبة بأن يكشفوا كيف يستخدمون البيانات الشخصية لتحديد الأسعار، والاستفادة من إعدادات الخصوصية وخيارات الانسحاب من تتبع البيانات.
الشفافية والتنظيم وتوعية الجمهور ستظل عوامل محورية في الحدّ من مخاطر استغلال البيانات الشخصية لفرض أسعار غير عادلة.