تصاعدت هجمات الجيش الإسرائيلي على مدينة غزة في إطار توسيع عملياته بهدف السيطرة على آخر مركز سكاني كبير في القطاع، ما اضطر عشرات الآلاف من الفلسطينيين الجائعين إلى الفرار مجدداً.
تحمّلت أحياء الزيتون وصبرا والرمّال والطفّة الجزء الأكبر من القصف الإسرائيلي في الأيام الأخيرة، بحسب ما أعلنه متحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، الذي حذّر من أن خطط إسرائيل لتهجير الفلسطينيين قسرياً إلى جنوب غزة ستفاقم معاناتهم.
فرّآ آلاف العائلات من حي الزيتون بعد أيام من القصف المتواصل الذي دمر الحي. وقُتل على الأقل سبعة أشخاص يوم الأحد حين أصابت غارة جوية إسرائيلية مستشفى الأهلي العربي في مدينة غزة.
أعلن الجيش الإسرائيلي يوم الأحد أيضاً أنه سيوفر خياماً ومعدات لإقامة ملاجئ للفلسطينيين الذين تُكرر تهجيرهم منذ ٢٢ شهراً من الحرب، التي وصفتها منظمات حقوقية عدة بأنها عمل إبادي.
من دير البلح في وسط غزة، نقلت مراسلة الجزيرة هند خضري أن قصف المدفعية والضربات الجوية أجبرت كثيرين على ترك منازلهم. قالت: «حي الزيتون منطقة مأهوله بكثافة، يؤوي أسرًا عديدة، بينهم من كانوا يلتجؤون هناك. تفاجأ السكان ببدء قصف المدفعية والغارات الجوية المكثفة. بقي بعض الناس، وشرع آخرون بالتحرك. ومع تصاعد العنف أجبر كثيرون على الاجلاء — جائعين، محطَّمين ومشرَّدين مرة أخرى، تاركين وراءهم كل ما لديهم».
«موجة جديدة من الإبادة»
أعلنت إسرائيل الأسبوع الماضي خططاً لدخول أعمق إلى مدينة غزة ونقل سكانها إلى الجنوب، خطوة أثارت إدانات دولية. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم حرب، إن المدنيين سيُنقلون إلى “مناطق آمنة” رغم أن هذه المناطق تعرّضت أيضاً للقصف مراراً.
ما يقرب من ٩٠٪ من ٢٫٤ مليون فلسطيني في غزة لا يزالون مهجّرين، وغالبيتهم الساحقة تواجه الآن المجاعة. وأعلنت وزارة الصحة في غزة يوم الأحد أن سبعة فلسطينيين آخرين توفوا جوعاً خلال ٢٤ ساعة، ليرتفع عدد الوفيات الناجمة عن الجوع إلى ٢٥٨، بينهم ١١٠ أطفال، نتيجة الحصار المستمر على القطاع.
قُتل يوم الأحد نحو ٤٠ فلسطينياً آخرين على يد إسرائيل، نصفهم من طالبي المساعدات، ليرتفع إجمالي القتلى منذ اندلاع الحرب في أكتوبر ٢٠٢٣ إلى ٦١٬٨٢٧.
ندّدت حركة حماس بخطة إسرائيل لإقامة خيام في الجنوب ووصفتها ذريعة للتهجير الجماعي. وقالت في بيان إن هذه الخطوة تشكل «موجة جديدة من الإبادة والتهجير» ووصفتها بأنها «خدعة صارخة تهدف إلى تبرير جريمة وحشية تستعد قوات الاحتلال لتنفيذها».
سادت أجواء من اليأس في غزة بعد أحدث أوامر التهجير القسري، كما نقلت المراسلة الإلكترونية للجزيرة من غزة مرام حميد على حسابها في «إكس». كتبت: «لا توجد كلمات تعبر عما يشعر به الناس الآن في غزة. الخوف والعجز والألم يملأون النفوس بينما يواجهون موجة تهجير جديدة وعملية برية إسرائيلية. مجموعات الواتساب العائلية مليئة بالصراخ الصامت والحزن. الله وحده يعلم ما عاناه الناس، وعقولنا تكاد تشلّها كثرة التفكير».
من منظور جوي، أظهرت صورة من طائرة عسكرية أردنية قطاع غزة بينما يستعد طاقمها لإلقاء مساعدات إنسانية جوياً في ١٧ أغسطس ٢٠٢٥ [علاء الصخني/رويترز].
يتزاحم المشردون واليائسون على فتات الطعام فيما يواجهون المزيد من القصف الإسرائيلي. تقول الأمم المتحدة إن واحداً من كل خمسة أطفال في غزة يعاني من سوء تغذية، وتعتمد عشرات الآلاف على مطابخ خيرية توفر وجبات صغيرة قد تكون وجبتهم الوحيدة في اليوم.
قالت زينب نباحان، مهجرة من مخيم جباليا، للجزيرة: «أتيت إلى المطبخ الخيري عند السادسة صباحاً للحصول على طعام لأطفالي، وإذا لم أحصل الآن فعليّ أن أعود مساءً لمحاولة أخرى. أطفالي يموتون جوعاً على حصص صغيرة من العدس أو الأرز. لم يأكلوا خبزاً أو فطوراً؛ كانوا ينتظرون مني أن أغادر ومعي ما تسعفني به يد المطبخ الخيري».
وأضاف قاطن آخر، تيسير نعيم، للجزيرة: «لو لا رحمة الله والمطابخ الخيرية لما كنت لأبقى على قيد الحياة. نأتي عند الثامنة صباحاً ونتعب للحصول على العدس أو الأرز، نتحمل كثيراً ثم نغادر عند منتصف النهار ونمشي نحو كيلومتر تقريباً».
«مجاعة من صنع الإنسان»
حذرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) يوم الأحد من أن غزة تواجه «مجاعة من صنع الإنسان» ودعت إلى العودة لنظام توزيع تقوده الأمم المتحدة. قالت جولييت توما، مديرة الاتصالات بالوكالة، في منشور على «إكس»: «نحن قريبون جداً جداً من فقدان إنسانيتنا المشتركة».
أوضحت أن الأزمة غذّتها محاولات متعمدة لاستبدال النظام الإنساني المنسق أممياً من خلال ما وصفته بأنه النظام السياسي المسمى “GHF”. حذرت من أن النظام البديل الذي تروج له إسرائيل والولايات المتحدة «يجلب إذلالاً وفوضى وموتاً»، وشددت على ضرورة «العودة إلى نظام موحّد لتنسيق وتوزيع المساعدات تقوده الأمم المتحدة ويستند إلى القانون الإنساني الدولي». «ينبغي أن تنقضي هذه الفظيعة.»
يقول برنامج الأغذية العالمي إن فرقَه، رغم أنها «تفعل كل ما في وسعها»، لا تستطيع سوى تأمين 47% فقط من الكميات المستهدفة من المساعدات الغذائية الحالية.
وبحسب الوكالة الأممية، يقف نحو 500 ألف شخص على شفير المجاعة، ولا يمكن توسيع المساعدات إلى المستويات المطلوبة إلا بوقف فوري لإطلاق النار.
وقال مكتب الإعلام الحكومي في غزة إن إسرائيل تمارس تجويعاً متعمَّداً ضد الفلسطينيين عبر حظر دخول السلع الأساسية، بما في ذلك حليب الأطفال الجاهز، والمكمّلات الغذائية، واللحوم، والأسماك، ومنتجات الألبان، والفواكه والخضراوات المجمدة.
وأضاف المكتب في بيان منشور على تليغرام أن هناك «سياسة ممنهجة من التجويع المبرمج والقتل البطيء» تُطبَّق على أكثر من 2.4 مليون نسمة في غزة، بينهم أكثر من 1.2 مليون طفل فلسطيني، واصفاً ذلك بأنه جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان. وحذّر من أن أكثر من 40 ألف رضيع يواجهون سوء تغذية حاداً، بينما يعاني ما لا يقل عن 100 ألف طفل ومرضى من حالات مماثلة.
أمجد شوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية في مدينة غزة، قال لقناة الجزيرة إن العاملين في الإغاثة يكافحون للاستجابة في ظل انهيار الموارد. وصرّح: «نحاول أن نبذل أقصى ما بوسعنا. نحن جزء من النسيج الاجتماعي، مرتبطون بالناس هنا، ونبقى معهم بينما تُهدد إسرائبل بتطبيق خطط الإخلاء القسري لمدينة غزة وتدمير بقية القطاع. يقيم هنا نحو 1.1 مليون شخص، معظمهم من كبار السن والنساء والأطفال وذوي الإعاقة.»
وأضاف أن الفرق ما تزال تقدّم وجبات محدودة، ورعاية طبية وخدمات تعليمية، لكنه حذّر من أن «النظام الإنساني ينهار» مع استهداف مرافق الإغاثة وفرض قيود على الإمدادات.