لطالما شكلت السردية الصهيونية قوة مهيمنة في الولاات المتحدة لأكثر من سبعة عقود. رعتها لوبيات نافذة، غذتها حركات تبشيرية مسيحية، وعكستها وسائل الإعلام التقليدية، فبقيت إلى حد بعيد بلا تحدٍّ حتى اندلاع ما يُوصف بالإبادة الجماعية في غزة.
خلال ما يقرب من عامين، خلقت الصور الصادمة للفظائع، وحجم الدمار، والخسائر البشرية الهائلة سجلاً لا يقهر من الرعب، ما بدأ يهتزّ أمام السردية الصهيونية. استطلاعات الرأي تتوالى لتُسجّل تحوّلاً في الرأي العام تجاه إسرائيل؛ على جانبي الانقسام السياسي الأميركي يتضاءل الحماس للدعم المطلق للحليف القديم. فماذا يعني هذا لعلاقة واشنطن بتل أبيب؟
على المدى القصير والمتوسّط، لا تغيرات جوهرية متوقعة. الإمدادات العسكرية الأميركية، والمساعدات، والتعاون الأمني، والدعم الدبلوماسي لإسرائيل لن تتأثر تأثيرًا كبيرًا بين ليلة وضحاها. بنية الدعم التي تبلورت على مدى ثمانية عقود تقريبًا لا يُتوقع أن تتلاشى بسرعة.
لكن على المدى الطويل، سينخفض مستوى الدعم الأميركي. وهذا سيجبر إسرائيل على إعادة النظر في موقفها العدواني في المنطقة والحدّ من مخططاتها للسيطرة على كامل التراث التاريخي لفلسطين.
ماذا تقول الاستطلاعات؟
بدأت استطلاعات الرأي تُظهر تغيرًا في الرأي العام الأميركي، لا سيما بين الشبان الديمقراطيين، حتى قبل هجمات 7 أكتوبر 2023. وبعدها، بدا أن وتيرة هذا التحول تسارعت بشكل ملحوظ.
استطلاع أجرته مؤسسة بيو في مارس هذا العام يُشير إلى أن المواقف السلبية تجاه إسرائيل ارتفعت من 42% إلى 53% من البالغين الأميركيين منذ 2022. وكان التحول أوضح بين الديمقراطيين، من 53% إلى 69% لنفس الفترة.
ما يلفت الانتباه هو أن هذا التغير عبر أجيال. بين الديمقراطيين الذين تبلغ أعمارهم 50 عامًا فما فوق — وهم عادة أكثر اعتدالًا في قضايا السياسة الخارجية — ارتفعت المواقف السلبية تجاه إسرائيل من 43% إلى 66%.
تغيرت أيضًا تعابير التعاطف. بحسب استطلاع أجرته مجلة الإيكونوميست مع YouGov في أغسطس، أعرب 44% من الديمقراطيين عن تعاطف أكبر مع الفلسطينيين مقارنة مع 15% مع الإسرائيليين؛ أما لدى المستقلين فكانت النسب 30% و21% على التوالي.
الاستطلاع ذاته يُظهر أن أغلبية من الأميركيين الآن ترى أن استمرار قصف إسرائيل لغزة غير مبرر، وأن نحو 78% يريدون وقف إطلاق نار فوري، بمن فيهم 75% من الجمهوريين. وقد قال 43% إنهم يرون في أفعال إسرائيل إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، بينما اعترض 28% فقط.
الأهم من ذلك، يرى 42% من المشاركين أنه ينبغي تقليل الدعم لإسرائيل؛ وبينه الجمهوريون النسبة تصل إلى 24%.
استطلاع هارفارد-هاريس في يوليو كشف عن اتجاه ربما يكون الأكثر إثارة لقلق مؤيدي إسرائيل: 40% من الشبان الأميركيين الآن يميلون لصالح حماس أكثر من إسرائيل. ورغم أن ذلك قد يعكس تعاطفًا عامًا مع الفلسطينيين، إلا أنه يكشف شرخًا ملحوظًا في سيطرة سردية “الإرهاب الفلسطيني” بين الشباب الأميركي.
وأظهر الاستطلاع نفسه أن 27% فقط يؤيدون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو تصويت حاد بعدم الثقة يختلف كثيرًا عن الاستقبال الذي يحظى به في البيت الأبيض والكونغرس.
كيف قد تتغير السياسة؟
مع تراجع نفوذ الناخبين الأكبر سنًا — آخر معاقل التأييد الانتخابي لإسرائيل — لصالح أجيال أصغر تميل أكثر لقضية الحقوق الفلسطينية، سيتغير الحساب السياسي باتجاه تحولات عميقة. السؤال لم يعد إذا ما كانت الولايات المتحدة ستعيد النظر في علاقتها الخاصة مع إسرائيل، بل متى ستفعل ذلك.
العلاقة الخاصة مع إسرائيل هي واحدة من القضايا النادرة التي تحظى بدعم عبر الحزبين. تغيير هذا الواقع سيأخذ وقتًا طويلاً.
طبيعيًا، قد تطرأ تغييرات قصيرة الأجل. إذا حدث شق مفاجئ بين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب — ربما على مستوى شخصي — فسيجد الأخير في تحول الرأي العام غطاءً سياسياً للتباعد عن إسرائيل. ذلك التحول سيوفر له ذريعة للاستماع لما يريده الشعب الأميركي. مع ذلك، يميل الاحتمال بأن يحدث تغيير دراماتيكي فوري إلى أن يكون ضعيفًا.
الأرجح أن الضغط الشعبي سيدفع أعضاء الكونغرس إلى التدرج في تغيير مواقفهم حيال القضية الفلسطينية. الذين يصرون على المواقف الراسخة قد يواجهون تحديًا من مرشحين أصغر سنًا وأكثر حيوية يرفضون التمويل من منظمات مؤيدة لإسرائيل مثل AIPAC، وسيظهر تنافس داخلي بهذا الخصوص.
لكن التقدم داخل مجلس النواب ومجلس الشيوخ سيأخذ وقتًا طويلاً، لا سيما في وجه مقاومة شرسة من لوبيات مؤيدة لإسرائيل التي تعتبر هذه لحظة مفصلية في تاريخ العلاقة بين البلدين، وستستخدم مواردها الضخمة لاستبعاد أي مرشح يُظهر تعاطفًا مع الفلسطينيين أو يشكك في الدعم الأوتوماتيكي لإسرائيل.
علاوة على ذلك، ستستمر قضايا أخرى — الاقتصاد والمشكلات الاجتماعية المتعددة — في هيمنة البرامج السياسية؛ فالسياسة الخارجية نادرًا ما تحسم الانتخابات الأميركية وحدها.
لن تكون هذه الانتقالة ثنائية الحزبين في الأجل القريب. الدعم الجمهوري لإسرائيل أكثر ثباتًا. أما المؤسسة الديمقراطية فقد تعرضت لضغوط متزايدة من قاعدتها منذ رئاسة جو بايدن. ومع صعود أعضاء أصغر سنًا — كما تجلى في فوز زهران مامداني المدوّي في انتخابات نيويورك التمهيدية — سيجد قادة الحزب الديمقراطي أنفسهم مضطرين لتغيير المسار.
مع انتخاب مزيد من المسؤولين المؤيدين للفلسطينيين، لا سيما في الكونغرس، سيتوسع المعسكر التقدمي ويكثف الضغوط لتغيير السياسة من الداخل.
لكن هذه العملية لن تكون كافية سريعًا لتحسين الأوضاع على الأرض في فلسطين أو لوقف ما يقترب من تطهير عرقي في غزة. المرجح أن يأتي الإغاثة بالدرجة الأولى بفعل ضغوط دولية وتطورات ميدانية أكثر من تغيير فوري في السياسة الأميركية.
ومع ذلك، على المدى البعيد، أي تراجع في دعم الكونغرس أو حتى من رئيس أميركي سيجبر الحكومة الإسرائيلية على تعديل موقفها العدواني المفرط في المنطقة وكبح ميلها العسكري المغامر. وربما تضطر كذلك لتقديم تنازلات في الملف الفلسطيني. ما إذا كانت هذه التنازلات ستؤدي إلى قيام دولة فلسطينية يبقى سؤالًا مفتوحًا.
الأفكار المعبر عنها هنا هي للمؤلف فقط ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.