دوحة — كانت سحب الدخان التي ارتفعت بعد الغارات الإسرائيلية مشهداً مألوفاً في مناطق عدة من الشرق الأوسط خلال الأشهر الماضية، لكن رؤيتها تتصاعد فوق أفق العاصمة القطرية اللامع كان أمراً شاذاً وخارج المألوف.
الهجوم الإسرائيلي على الدوحة يوم الثلاثاء، الذي يُعدّ الاستهداف السادس لدولة هذه السنة، بدا موجهاً إلى فريق تفاوض تابع لحركة حماس، وكان هناك حديث آنذاك عن قرب إبرام صفقة لوقف إطلاق النار في غزة. وقع الهجوم في منطقة مكتظة بالسكان قرب سفارات ومدارس، وأسفر عن مقتل خمسة من عناصر حماس ذوي رتب متدنية وضابط في قوة الأمن الداخلي القطرية.
أثار الهجوم سخطاً رسمياً واسعاً في الدوحة، التي اعتبرته «إرهاب دولة» و«اعتداءً إجرامياً متهوراً». ووصف رشيد المهنادي، زميل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون العالمية، الحملة بأنها عمل «جبان وخيانة»، مشيراً إلى أن محاولة اغتيال فريق تفاوض داخل بلد الوسيط تُظهر عدم جدية الإسرائيليين في الوصول إلى تسوية لوقف الأشتباكات.
لم يقتصر أثر العملية على غضب الحكومة القطرية، بل أثارت تساؤلات حول مصير دور الدوحة طويل الأمد كوسيط محايد وعن تحالفاتها الدفاعية. ترى الخبيرة سانام فاكيل، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تشاثام هاوس، أن الهجوم قد يدفع قطر ودول مجلس التعاون نحو مزيد من تنويع الشراكات والسعي لمزيد من الاستقلالية الاستراتيجية.
في المقابل، تعتبر سينزيا بيانكو، باحثة زائرة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن خيار الدوحة العملي محدد بشكل كبير، وأن أقوى ورقة ضغط لديها قد تكون الانسحاب الجزئي أو الكلي من الدور الوساطي الذي أدته لسنوات، واستخدام هذا الانسحاب كأداة للضغط على الولايات المتحدة لتعاطٍ أكثر جدية مع الانتهاكات الإسرائيلية، لأن التأثير المباشر على إسرائيل يبدو محدود الفاعلية.
كما طرح المحللون خيار الضغط الاقتصادي، إذ تملك قطر استثمارات كبيرة في أوروبا والولايات المتحدة، ويمكنها ـ بحسب المهنادي ـ استخدام نفوذها الاقتصادي للضغط على حلفاء إسرائيل إذا لم يتخذوا خطوات فعلية لردعها.
على الصعيد الدبلوماسي، قد تلجأ الدوحة إلى الهيئات الدولية لعزل إسرائيل سياسياً؛ فقد دعت عدة دول، من بينها الجزائر وباكستان، لعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن رداً على الهجوم، فيما أعلنت قطر تشكيل فريق قانوني برئاسة الدبلوماسي محمد بن عبدالعزيز الخليفي «لمتابعة كل الإجراءات القانونية ضد هذا الاعتداء الغادر، باعتباره انتهاكاً فاضحاً لسيادة الدولة وللقوانين والأعراف الدولية».
ورغم محدودية الخيارات الردعية، يرى المهنادي أن قطر من غير المرجح أن تتخلى عن دورها الوساطي، لكون الوساطة متجذرة في سياساتها الخارجية ومؤسساتها، وأن الضربة سوف تترك «ندبة» لكنها لن تمحو موقعها كوسيط إقليمي مهم. وأضاف أن الدوحة ستستمر في الدفع نحو وقف إطلاق النار عبر منابر متعددة، خصوصاً عبر مجلس الأمن ومنظمات متعددة الأطراف.
لدى قطر سجل طويل من الوساطات الدولية؛ فقد ساهمت في تسهيل مباحثات سلام في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وشاركت في مبادرات لإعادة لمّ شمل أطفال أوكرانيين نُزحوا جراء الحرب، ولعبت دوراً محورياً في محادثات أفغانية وإنسانية عبر استضافتها لمفاوضات مع طالبان.
تتفق الباحثة إيلونورا أرديماني من المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية على أن نافذة التوصل إلى هدنة في غزة تبدو الآن ضيقة للغاية، لكنّ الدوحة ستواصل محاولاتها الوساطية في هذا الإطار، مستندة إلى خبرتها وشبكات علاقاتها الإقليمية والدولية. إلا أن الهجوم ألحق ضرراً واضحاً بالعلاقات بين الولايات المتحدة وقطر.
«قطر تدرك أنها لا يمكن أن تتحول إلى ساحة لحسابات القوى الإقليمية — هذا شأن يتعلق بالأمن الوطني»، قال أردماجني لـ «الجزيرة».
«الردع الأمريكي لم يعد قادراً على ضمان أمن قطر، كما هو الحال بالنسبة لبقية دول مجلس التعاون.»
الضربة تضع الدوحة في مأزق حقيقي بشأن استضافتها للقيادة السياسية لحركة حماس، حسب مختصين. لا يبدو أن طرد قيادة الحركة سيجري فوراً، لأن ذلك قد يتراءى كدليل ضعف أو كأن الدوحة تلعب في مصلحة اسرائيل، وفق قول فاكيل.
بدلاً من الطرد الفوري، ستسعى قطر للحصول على ضمانات أمريكية، لا سيما وأنها دعمت وجود مكتب حماس بغطاء أمريكي وإسرائيلي قبل سنوات، حسب فاكيل. وقد أكّد مسؤولون قطريون أن قرار استضافة القيادة جاء تلبيةً لطلب أمريكي. وفي رأي السفير القطري لدى واشنطن في مقالة عام 2023، رغبت واشنطن في وجود مكتب «لإقامة خطوط تواصل غير مباشرة مع حماس».
رغم اتفاق المحللين على أن طرد قيادة حماس من الدوحة لن يحدث على الفور، فإن بيان بيانكو كان واضحاً بوجود «احتمال قوي» لأن تعيد قطر النظر في استضافتها للحركة. الدوحة، كما قالت، كانت تُقيّم مخاطر مماثلة منذ هجمات 7 أكتوبر 2023 لكنها أبقت على العلاقة خياراً للمساهمة في حل أزمة غزة. غير أن ثمن الاستمرار لو تطلّب أن تصبح الدوحة نفسها هدفاً متكرراً، فربما يفقد البقاء على هذا النهج جدواه؛ وأي نقل محتمل للقيادة سيكون على الأرجح نقلاً منسقاً وباتفاق مسبق.
تنويع الأمن وضرر النفوذ الناعم
من المتوقع أن يسرّع الهجوم مسعى قطر ودول الخليج عموماً نحو تنويع ترتيباتها الأمنية، بحسب المحلل المهنادي. قد يشمل ذلك بناء قدرات دفاعية مشتركة أو البحث عن شراكات أمنية مع فاعلين مثل الصين.
«ما جرى لم يكن اعتداءً على قطر فحسب، بل اختراقاً لدرع مجلس التعاون بأكمله، الذي كان يُعتبر بمنأى»، أضاف المحلل، مشيراً إلى أن درجة التنويع التي ستنتهجها دول الخليج ستتحدد إلى حد كبير برد الفعل الأمريكي.
وبينما تُعد قطر حليفاً رئيسياً لواشنطن خارج حلف الناتو، فإن أي تحول في مواقفها الدفاعية يحتمل أن يتم تدريجياً لا دفعة واحدة، على حد قول فاكيل. الخيارات المتاحة أمام الدوحة محدودة، لذلك على المدى الطويل ستعمل على تشكيل أو تنويع علاقاتها الثنائية والمتعددة الأطراف.
يتوقع المحللون توحّد دول الخليج حول قضايا مشتركة تتعلق بتفادي مزيد من زعزعة الاستقرار الإقليمي. إشارة المحللين لهجمات إيران على قاعدة العديد ثم الضربة الإسرائيلية على الدوحة تعكس تحولاً في تصور قادة الخليج للمستقبل. ثمة إحساس متصاعد بالهوية الخليجية والوحدة إزاء الاعتداءات الخارجية، مع ازدياد مشاعر الوطنية والتماسك بين المقيمين والمواطنين في قطر.
على الصعيد الاقتصادي والاستثماري، يرى المحللون أن ممتلكات قطر الدولية — من عقارات في لندن إلى ملكيات لأندية كرة قدم أوروبية — ستبقى إلى حد كبير بعيدة عن التأثر الفوري. لكن الأعمال الإسرائيلية قد وجهت ضربة إلى طموحات قطر في تعزيز نفوذها الناعم داخلياً؛ فالهجوم يعد اعتداءً غير مباشر على طموح الدوحة في أن تصبح مركزاً سياحياً وأن تستضيف المزيد من الفعاليات الدولية، الأمر الذي قد يبطئ تلك المشاريع ويُعقّد جهودها في تحسين صورتها العالمية.