جميلة تنتظر جثمان ابنها الذي احتجزته إسرائيل حتى تتمكن من دفنه | الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

مخيم بلاطة للاجئين — الضفة الغربية المحتلة

جميلة صنقرا فقدت أبناءها الثلاثة؛ وتؤكد يقينًا أن إسرائيل قتلت اثنين منهم. ابنها الثالث والأصغر، محمود، أُطلق النار عليه داخل غرفته على يد كوماندوز إسرائيلي في 27 فبراير، قبل أسبوع من بلوغه السادسة والعشرين. أخذه الجنود ولم يُعاد إلى عائلته، ولا يعرفون ما إذا كان حياً أم قد توفي، ما يزيد من آلامها ومعاناتها النفسية.

«الأمهات الفلسطينيات يحملن أولادهن مرتين؛ مرة في الرحم، ومرة في يوم تشييعهم»، تقول جميلة (67 عاماً) في بيتها بمخيم بلاطة. وتُعدّ جثث محمود ربما واحدة من أكثر من 2,220 فلسطينياً قُتلوا في الضفة وغزة وتحتجز إسرائيل جثثَهم، أحياناً في ثلاجات أو مدافن مرقمة، بحسب الحملة الفلسطينية الوطنية لاستعادة جثامين الشهداء. وتؤكد مؤسسة المساعدة القانونية وحقوق الإنسان بالقدس أن هذه الممارسات تُستخدم كسلاح حرب ولمنع الفلسطينيين من حقّهم في الحداد.

المخيم تحت الهجوم

يقع مخيم بلاطة شرقي نابلس، وهو أقدم وأكتظ مخيم للاجئين في الضفة الغربية، أُنشئ عام 1950. مساحته تقلّ عن ربع كيلومتر مربع—تقريباً مساحة 35 ملعب كرة قدم—ويسكنه ما لا يقل عن 33,000 شخص في شوارعه الضيقة. تزيّن الوجوه المطبوعة على الجدران والنوافذ المكان كما لو كانت أضرحة، لوجوه أكثر من 45 فلسطينياً تقول أوساط محلية إن إسرائيل قتلتهم منذ السابع من أكتوبر.

تعمل مجموعات مقاومة فلسطينية تحت غطاء شبكة الأزقة المتشابكة والمساكن الشبيهة بالأفْقَلِيات، وكانت على مرّ السنوات شوكة في خاصرة الجيش الإسرائيلي. يعلو المخيم كنيسة بيزنطية معروفة باسم «بئر يعقوب»؛ وعلى الطريق نفسه نصب جنائزي معروف عند اليهود باسم «قبر يوسف»، الذي يرتبط أيضاً بمكان دفن الشيخ يوسف الدويكات، العالم الديني المرموق المدفون هناك في القرن الثامن عشر. أهمية قبر يوسف للتقليد اليهودي والصهيوني جعلته هدفاً لتيارات قومية متشددة في ائتلاف نتنياهو الساعية إلى إخضاعه لسيطرة إسرائيلية كاملة.

حافلات المستوطنين المسلّحين — مصحوبة بالجنود — تقتحم الموقع لترويع السكان، يرددون هتافات ويقيمون طقوساً دينية على أبواب جيرانهم الفلسطينيين، ما يحرّض على العنف واشتباكات متكررة. ويقول الأهالي إن بلاطة تحت حصار مستمر منذ تكثيف الهجمات الإسرائيلية على الضفة عقب هجمات 7 أكتوبر 2023. وخلال مداهماتها يدمر الجيش الطرق والعشرات من المباني في كل مرة. وتصف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) المخيم بأنه يشبه الجيتو، ويعاني من أعلى معدلات البطالة والفقر وانعدام الأمن الغذائي في الضفة، كما أن أكثر من 60% من سكانه دون الثامنة عشرة.

يقرأ  متحف اللوفر ينهي تعاوناً دام أكثر من عقد مع نينتندو في مشروع دليل المتحف لجهاز 3DS

خطف الجتث

أعدت عائلة صنقرا قبراً فارغاً في مقبرة بلاطة لمحمود، إلى جانب قبريّ شقيقيه الأكبرين، أحمد وإبراهيم. العائلة تنتظر جثة محمود أو حتى تأكيداً رسمياً بوفاته، لكنها تعلم أن حصولهما على أيٍ منهما أمرٌ بعيد الاحتمال. وتقول JLAC إن إسرائيل لا تزال تحتجز جثثاً تعود إلى حرب 1967.

«تفرض سلطات الحتلال سيطرتها على أعمق مشاعر الفقد، وتُجبر العائلات غالباً على الانتظار بلا نهاية لاسترداد جثث أبنائها»، جاء في تقرير الحملة الوطنية لاستعادة جثامين ضحايا الحرب. جلست جميلة في غرفة المعيشة مع ابنتيها براءَة وعميرة ومع حفيدتين من بنات عميرة، بينما جلس زوجها حزيناً متزبّناً قرب الباب. وترى جميلة أن عدم إعادة جثة محمود جزء من عقاب جماعي تُعانيه عائلتها، لأن ابنها الأكبر أحمد خاض مواجهة مع فصائل مسلحة قبل أن يُقتل عام 2008 عندما كان في العشرين من عمره.

«إنه تدنيس»، تقول جميلة. «تعذيب للعائلات، وخاصة للأمهات. لا غلق للجرح؛ لا قبر أذهب إليه لأدعوا له، أحدثه، وأندب عليه بهدوء.» تواصلت الجزيرة مع الجيش الإسرائيلي للاستفسار عن قضية محمود، فلم تتلقّ رداً.

العقاب والصمود

حياة محمود القصيرة كانت مشبعة بالصدمات والحرمان. في صورة أصبحت رمزاً من موجة الانتفاضة الثانية، يظهر محمود وهو في الخامسة من عمره يغطّي ذراعه على وجهه وهو يحدق بحزن فوق ركام منزله الذي دمّره الجنود عام 2004 كعقوبة للعائلة على نشاطات شقيقه أحمد. بعد ذلك بعامين، خلال مداهمة للمخيم في نوفمبر 2006، كان إبراهيم الأوسط — الذي لم يكن منخرطاً بالمقاومة — يبحث عن أحمد عندما أطلق عليه جندي النار فأصاب ساقه في شريان رئيسي، فكانت الإصابة قاتلة.

وفي 2008 ظهرت صورة لمحمود وهو يبكي فوق جثة أحمد بعد اغتياله، وانتشرت الصورة على نطاق واسع؛ وكان أحمد قد انضم للمقاومة في سنوات مراهقته الأولى، وقُتل في نفس البيت الذي سيُقتل فيه أخوه الصغير بعد سبعة عشر عاماً. أما محمود فواجه الجيش لاحقاً بنفسه: في 2022 تداولت وسائل إعلام لقطة لجنود ينهالون عليه ضرباً أمام والدته جميلة داخل المنزل، ولاقت اللقطة اهتماماً دولياً. وبعد مقتله، نشرت وسائل إسرائيلية ادعاءات بأنه مطلوب بتهم تهريب أسلحة وإطلاق نار وزرع عبوات ناسفة. أعلنت القوات العسكرية أنها قتلت «الأكثر طلباً في بلاطة»، وفق ما أفادت العائلة.

يقرأ  دراسة جديدة: أهمية وتحديات انخراط الطلاب في المراحل من رياض الأطفال إلى الصف الثاني عشر

ونعت كتائب شهداء الأقصى، الجناح المسلح المرتبط بحركة فتح، دور محمود في المقاومة داخل المخيم عبر حساباتها على تليغرام.

تصر والدته على أنها لا تصدق أنه كان مقاتلاً، بينما يؤكد سكان المخيم الآخرون معرفتهم بتورطه في المقاومة. ومن الممكن أيضاً أن جميلة لم تكن على علم بنشاطاته.

حكت جميلة قصة إطلاق النار الذي استهدف محمود تحت صورة أبنائها القتلى؛ الإطار المحطم الذي تركه الجنود الذين اقتحموا منزلها في اليوم نفسه، شاهد على العنف. وقالت جميلة بصوت متهالك: «ذهني مبعثر، وفي داخلي نار لا تنطفئ إلا حين أدفن محمود بجانب إخوته».

خلفت القوات آثار دمار كبيرة في منزل أسرة السناقرة خلال هجوم فبراير، وأجزاء كبيرة لا تقدر العائلة على إصلاحها. تتذكر جميلة كيف اقتحم جنديان الباب في الصباح الباكر وأحصروا العائلة كلها في غرفة واحدة بعنف، بينما بقي محمود محبوساً في غرفته.

وأضافت: «ضربوني، أسقطوني أرضاً، داسوا على صدري وعنقي ورجلي وأنا ملقاة على الأرض». واصفة هجوم كلب على ابنته براء: «هاجمه كلب؛ طاردهٌ وعض ساقها… وأحد الجنود قال لي إنني سبب أن أولادي أصبحوا “إرهابيين” وبالتالي سبب قتلهم».

تتابعت الإهانات: «سألني جندي آخر كم عدد الشهداء في العائلة، فلما أجبت بأنه اثنان، قال إنك الآن لديك ثلاثة… بدأت أصرخ… وشعرت بالعجز كأم. لم أستطع إنقاذ ابني».

مع سماع الطلقات في الطابق العلوي، صرخت عائلة السناقرة بأسماء أبنائها وخصوصاً محمود بينما كان الجنود يفرغون سلاحهم عليهم مطالبينهم الإفصاح عن أماكن الأسلحة المخفية. تتذكر جميلة الصرخة القصيرة والمدوية التي قطعتها الطلقات، وتعتقد أنها آخر كلمة نطق بها ابنها؛ صوت يطاردهم في بيت العائلة حتى اليوم.

عندما أُطلق سراح العائلة من الاحتجاز، اختفى جسد محمود، واختفى معه الجنود. وأخرجت جميلة قميصه وبنطاله الملطّخان بالدم؛ ثياب مخترقة بالرصاص تشير إلى أن معظم جسده لم ينجُ من الإصابات. جردوه من ملابسه وسحبوه على الدرج تاركين «خطاً من الدم».

يقرأ  إسرائيل تشنّ أحدث هجماتها ضدّ الحوثيين في صنعاء اليمنية

لا تزال مرتبة محمود وملابسه والسجادة مشبعة بالدم ولم تمس منذ الهجوم. ثقوب الرصاص مزقت الجدران وإطارات النوافذ.

تعمل نسرين بشارات، الأخصائية النفسية المقيمة في نابلس، على مجموعة دعم للأمهات في بلاطة وتقدم علاجاً نفسياً للأطفال عبر الإنترنت في غزة. تقول بشارات: «الأمهات الفلسطينيات لديهن نفس الغريزة الأمومية كما لدى أي أم في العالم. لا يردن موت أبنائهن». وتضيف: «لكن الفارق أن تقبل الأم أمراً مختاراً من ابنها أسهل من قبولها خسارته بالقوة».

منذ سابع أكتوبر 2023، يصف سكان مخيم بلاطة أن الحصار العسكري لم يتوقف، فالغارات متواصلة تقريباً يومياً. كثير من العائلات التي تملك وسيلة للرحيل تفعل، بينما تلك التي لا تملك تختار بين الصبر أو المقاومة، مع خطر التهجير مهما كان الاختيار.

أكثر من 40 ألف من أهالي مخيمات اللاجئين من مدينتي طولكرم وجنين — اللتين تشكلان محور المقاومة في الضفة — نزحوا بالفعل، ويخشى سكان بلاطة أن يكونوا القادمون على نفس المصير. تقول جميلة: «اسرائيل تجعل الحياة لا تُطاق في المخيمات. يؤذون أقرب الناس إليك ليُحدثوا فيك أكبر ألم». وتختم باحتياج أمومي بسيط: «لا أريد في الدنيا سوى أن أكون مع أبنائي الآن».

وتضيف جميلة عن حلم الأم الفلسطينية: أن تربي أبناءها على القيم والدين، وتأمل أن يصبحوا مهندسين وأطباء ومعلمين؛ أن يكون ابنها أفضل نسخة من نفسه… لكن، كما تقول، «لن يسمحوا لنا أن نعيش بسلام».

أضف تعليق