قبل عشرين عاماً هذا الأسبوع، مدفوعاً بإحساس عميق بالفضول، نجح يوسي ميكلبرغ — العضو الاستشاري الأول حالياً في تشاتام هاوس — في دخول غزة المقيدة متجاوزاً الحواجز ليرصد عن كثب آثار قرار اسرائيل بالانسحباب من القطاع.
«ركبت حافلة كانت تقل مستوطنين إلى أحد مقابر غزة في يوم تيشاع بּ’اف»، قال ميكلبرغ لقناة الجزيرة، مشيراً إلى يوم الحداد والصيام الذي يحيي فيه اليهود ذكرى تدمير الهيكلين الأول والثاني وسلسلة من المآسي التاريخية.
«كانوا في نشوة، ينوحون»؛ هكذا وصف الحزن المكثف الذي صادف انسحاب المستوطنين في يوم تقليدي للحداد. «كانت تجربة تكاد تكون خروجاً عن الجسد».
امتدت تداعيات قرار رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون بتفكيك واحد وعشرين مستوطنة غير قانونية في غزة إلى ما هو أبعد من القطاع نفسه. اندلعت احتجاجات هائلة في أنحاء اسرائيل، وخرج عشرات الآلاف من المستوطنين وأنصار اليمين المتطرف إلى الشوارع.
أُغلقت الطرق، ونُفذت اعتصامات، واحتلت مبانٍ حكومية. تصاعدت المواجهات مع الشرطة والجيش وأدت إلى اعتقالات جماعية.
روى ميكلبرغ أنه تحدث إلى أحد قادة المستوطنين: «قال لي إن الأمر لم ينته بعد بفارق بعيد. التخلي عن غزة ليس كالتخلي عن جنوب لبنان أو شبه جزيرة سيناء. بالنسبة إليهم، كان التخلي عن غزة الخطوة الأولى نحو التخلي عن الضفة الغربية وعن مشروع إسرائيل الكبرى بأكمله. أخبرني أنهم في المرة القادمة سيكونون مستعدين. كان الحديث في جوهره عن احتمال نشوب حرب أهلية».
مع ذلك، أثار انسحاب اسرائيل من مستوطنات غزة لدى المتفائلين أملاً بأن البلاد كانت جادة في الالتزام بتسوية طويلة الأمد مع الفلسطينيين وبحل الدولتين الذي كانت قد أيدته رسمياً قبل عقد من الزمن.
اليوم، تبدو الحقيقة بعيدة كل البعد عن ذلك. تقف اسرائيل، تحت حكم هو الأشد تطرفاً في تاريخها، متهمة بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، فيما مطلوب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الأسبق يوآف غالانت بموجب مذكرات من المحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم حرب.
في غزة، قتلت اسرائيل أكثر من 64 ألف شخص وفرضت شروطاً أدت إلى نشوء حالات مجاعة. وفي الضفة الغربية المحتلة منذ 1967، يلوح ضم الأراضي بينما تُشن حملة عنف وتهجير بتأييد الدولة ضد الفلسطينيين المقيمين هناك.
يرى كثير من المحللين أن من بين المحركات الأساسية لهذا التحوّل في المجتمع الإسرائيلي هي ردود فعل اليمين المتطرف ومجتمع المستوطنين على انسحاب غزة عام 2005. مستمدة من شعور بالإحباط ومسلحة بخطاب نتنياهو، سعت حركات المستوطنين واليمين المتطرف إلى استحواذ مؤسسي — اكتساب نفوذ داخل الحكومة وفي مؤسسات البلاد من التعليم إلى البيروقراطية وأجهزة الأمن.
«إنه لأمر استثنائي»، قال روبرت جايست بينفولد، محاضر في الأمن الدولي بكلية كينغز في لندن. «المستوطنون انتقلوا من هامش السياسة إلى قلب السلطة».
لقد رُوج لانسحاب 2005 أمام الولايات المتحدة والأمم المتحدة وداعمي مبادرة السلام العربية لعام 2002 على أنه تراجع عن احتلال. لكن كثيرين جادلوا بأن الغرض الحقيقي كان الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الأراضي المحتلة مع تجنّب العودة إلى مفاوضات الحل القائم على دولتين.
بالمحصلة، وبحسب العديد من الأكاديميين، سمح الانسححاب الأحادي لشارون بتقديم اسرائيل كالقوة الدبلوماسية الوحيدة المصداقية في المنطقة مع الحفاظ على قبضته على الضفة الغربية. علاوة على ذلك، وخلال عامين من انسحابها، فرضت اسرائيل حصاراً على غزة لا يزال سارياً حتى اليوم، متحكمةً في حركة الأشخاص والبضائع ومختزلةً القطاع إلى «أكبر سجن مفتوح في العالم» بحسب منظمات حقوقية بينها منظمة العفو الدولية.
ساهمت أيضاً ضغوط داخلية: التكاليف السياسية والاقتصادية المتزايدة للحملات العسكرية في الضفة وغزة، حيث كانت حصيلة القتلى الفلسطينية قد بلغت آلافاً، رغبة في زيادة الأغلبية اليهودية داخل حدود الدولة؛ كل ذلك دفع شارون إلى قبول مكرٍ ظاهري بتقديم خطوة إلى الوراء لبلوغ قدمين إلى الأمام.
يوضح ياغيل ليفي من معهد الجامعة المفتوحة لدراسة العلاقات المدنية-العسكرية أن «الانسحباب نشأ من إدراك القيادة السياسية أن شرعية استخدام القوة العسكرية قد استُنفدت». وأضاف أن هذا الإدراك تراكم مع مقاومة متزايدة داخل صفوف الجيش للبقاء في غزة عندما لم تعد العمليات العسكرية تحقق نتائج ذات معنى، ما جعل اتباع نهج بديل أمراً لا مفر منه. «في الوقت نفسه، خلُصت القيادة الإسرائيلية إلى أن التخلي عن غزة سيُرضي الولايات المتحدة مع الحفاظ على حرية العمل في الضفة الغربية، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية أكبر لإسرائيل».
قال دوف واينغلاس، المستشار الأهم لشارون آنذاك: «أهمية خطة شارون تكمن في تجميد عملية السلام. خطة الانسحباب توفر فعلياً الفورمالدهيد الذي يمكن وضع بقية الخطط [السلامية] داخله».
بالنسبة لكثيرين، غيّر الانسحاب من غزة تصور مسار إسرائيل داخلياً — وخصوصاً لدى المستوطنين واليمين المسّياني. فمنذ تأسيسها في 1948 وحتى الانسحاب، خاضت إسرائيل حروبا في 1956 و1967 و1973؛ احتلت الضفة وغزة وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان؛ وغزت لبنان مرتين وشنت هجمات متكررة على مخيمات ومظاهرات فلسطينية. ومع ذلك، رأى كثيرون أن عام 2005 كان لحظة تحوّل جعلت اليمين المتطرف والمستوطنين يشعرون أن دولتهم وربما ليسوا على وفاق معها.
يشير ليفي إلى أن «الانسحباب فرّق العلاقة بين الصهيونية الدينية ومؤسسات الدولة»، لافتاً إلى أن المجتمعات الحريدية تأثرت بشكل خاص. بدل الاستمرار في التعاون مع النخب العسكرية العلمانية، تبنّت هذه المجموعة استراتيجية نفوذ مؤسسي وأجندة لإعادة تشكيل هوية الجيش.
أثناء احتجاجات 2005، اعتقلت الشرطة الإسرائيلية رجلاً يشتبه في تخطيطه لتفجير حركة مرور احتجاجاً على الانسحاب من غزة. ورغم وجود أدلة كافية لاحتجازه ثلاث أسابيع، فقد أُفرج عنه. المشتبه به كان بزَلئيل سموتريتش، وهو اليوم وزير المالية في إسرائيل وواحد من أقوى وجوه حركة المستوطنين.
حين ترشّح ضده للكنيست عام 2019 أحد محققيه السابقين، يتسحاق إيلان، قال لمشاهدي القناة الثالثة: «استجوبتُ سموتريتش، وإذا وصلوا [حزب الصهيونية الدينية] إلى السلطة، فربما سيعلّمون أولادكم».
جيست بينفولد، الذي يناقش في كتابه فهم الانسحاب الإقليمي سياسات إسرائيل في أراضيها المحتلة، بيّن أن هذا النفوذ امتد الآن إلى ما هو أبعد من ميدان التعليم.
منذ 2005، استغلت اليمين المتطرّف ومجموعات المستوطنين غضب الجمهور من فصل غزة ليبنوا عليه صعودهم السياسي والعام، وفق محللين.
من خلال تأطير أحداث مثل فوز حماس في انتخابات غزة 2007، وحروب إسرائيل على غزة في 2008 و2014، ومسيرة العودة الكبرى 2018 التي سعى الفلسطينيون فيها للعودة إلى القرى التي طُردوا منها عرقياً، كعواقب سلبية وحتمية لقرار شارون، قدّمت الحركات الاستيطانية واليمين المتشدد نفسها كمنبّهين ومحذرين من مخاطر الانفصال وخطر «إعادة» الأراضي للفلسطينيين.
دولة مُستولى عليها
اليوم، يمارس كلٌّ من سموتريتش ورفيقه في اليمين المتشدّد وزير الأمن القومي، يتامار بن غفير، سلطة تكاد تصل إلى حقّ النقض على السياسة الإسرائيلية، بما في ذلك الحرب على غزة.
في اتفاق الائتلاف عام 2022 مع نتنياهو، ضمّن سموتريتش صلاحيات موسعة على الضفة الغربية بصفته وزير المالية.
أما بن غفير، فحاز سيطرة على منظومة السجون وقوّات الشرطة في إسرائيل، التي اتّهمها ناشطون بتوظيف العنف والتقسيّة لعكس رؤيته الميشنية.
نائب عن حزب سموتريتش، تسفي سوكوت، حاول مقاطعة تظاهرة دعاها ناشطون فلسطينيون وإسرائيليون من أجل السلام فتعرض للمواجهة.
يستند كلا الرجلين إلى «خيانة» 2005 كمصدر دفع: ليس فقط لمنع تكرارها، بل للذهاب إلى أبعد من ذلك. في تسجيل سري نُقل في يونيو 2024، طمأن سموتريتش جمهور المستوطنين أن الضفة الغربية لن تكون أبداً جزءًا من دولة فلسطينية، وأن النظام الإسرائيلي تغيّر بنيته لجعل ذلك مستحيلاً.
بعدَ شهرين، اعلن خططاً لتوسيع استيطاني يزيد على ثلاثة آلاف منزل من شأنه قطع القدس الشرقيه المحتلة، التي يرى الفلسطينيون أنها عاصمتهم المستقبلية، عن الضفة الغربية وجعل قيام دولة فلسطينية أمراً غير قابل للحياة.
«هناك متحف في القدس يخلّد ذكرى الانسحاب»، لاحظ جيست بينفولد. «لطالما قدّم الانسحاب كخسارة تاريخية، على غرار خسائر الحرب العالمية الثانية، لكن منذ حملة غزة اكتسب ذلك طابعاً أكثر تحدّياً».
«في 2023، تبرّع المتحف بواحدة من الشمعدانات من إحدى كنائس المستوطنين الأصلية إلى فوج من الجنود»، قال. «كانت الفكرة أن يعيدوها إلى موضعها المشروع في غزة. في أجزاء كثيرة من إسرائيل، ثمة شعور بأننا عائدون، وأننا ذاهبون أبعد مما كنا».