لم يكن هناك في سوريا مكانٌ أكثر رُعبًا من سجن صيدايا، ذلك المجمع الذي احتلّ موقعًا مركزيًا في منظومة القمع التي بنَتها عائلة الاسد على مدى عقود. على تلة قاحلة في مشارف دمشق، بدا السجن كواجهة مادية لمسار استهداف كلّ من تجرّأ على المعارضة، مع مراكز اعتقال وتعذيب متفرّقة كانت تربطها الشبكة نفسها لإخماد أي صوت معارض.
خلال سنوات طويلة اعتقل جهازُ الأمن مئات الآلاف من الناشطين والصحافيين والطلاب والمواطنين من كلّ المحافظات؛ كثيرون اختفوا قسرًا أو فقدت أثارهم. وحسب شهادات ناجين ومنظمات حقوقية، لم يكن كثيرون من الداخل يتوقّعون الخروج أحياءً: رأوا زملاءهم يهزلون أمام أعينهم أو يتحوَّلون إلى أجسادٍ بلا إرادة، وأُعدِم عشرات الآلاف منهم في إعدامات جماعية.
صحيفةٌ زارت السجن مراتٍ عدّة، وأجرت مقابلاتٍ مع ستة عشر معتقلًا سابقًا واثنين من مسؤولي السجن السابقين، وأنشأت نموذجًا ثلاثي الأبعاد للمجمّع استنادًا إلى أكثر من مائة وثلاثين تسجيلًا تصويريًّا ميدانيًا. كما راجعَت سجلاتٍ وشهادات ذوي المعتقلين ومنظماتٍ مختصّة لتثبيت التفاصيل ونقْل صورةٍ أوضح عن ممارسات التعذيب والحرمان الممنهج.
في الشهادات الذين أدلوا بها للمراسلين، وصف المعتقلون التعذيب البدني والنفسي: الضرب المبرّح، الحرمان من الماء والدواء، وتعريض المصابين للضرب حتى الموت أحيانًا على يد من كانوا يُفترض أن يعالجُوهم. ثمة رواياتٍ تضمّنت أعمال عنف لم تُتح فرصة التحقق منها بشكل مستقلّ، لكنها اتفقت في جوهرها مع تقارير منظمات حقوقية عن منهجية القمع داخل سجن صيدنايا.
من بين الصور التي كشفتها التحقيقات، مشاهد أسرٍ تنهشها الحاجة بحثًا عن مستنداتٍ وصور داخل أروقة السجن، وسجلات تُظهر أن المجمع أُسس عام ١٩٨٧ حول مبنى رئيسي على شكل حرف Y، يرتفع أربعة طوابق، صار لاحقًا موقعًا لتفشّي الأمراض والوفايات وسط اكتظاظ وظروف صحية سيئة.
من القفص إلى الزنزانة
وصل المعتقلون عادةً إلى الصيدنايا محشورين في شاحنات بضائع، معصوبي الأعين ومقيّدي الأيدي. عند فتح أبواب الشاحنات، كان الحراس يصرفونهم إلى منطقة التسجيل وهو يصرخون في وجوههم ليُبقوا رؤوسهم منحنيّة بينما تُوجَّه إليهم ضربات بالعصي. أمرٌ واحد يتكرّر: خلعُ الملابس، ثمّ الدفع إلى أقفاصٍ حديدية ضيّقة اصطفت على جانبي جدران غرفة التسجيل.
بعد مكوثٍ تحت الأرض في زنزانات خانقة، يُنقل المعتقلون إلى الزنزانات الجماعية في الطوابق العليا حيث تفشّت الأمراض مثل الكوليرا والسلّ، وكانت الوجبات تُقدّم بالكاد: قارورة لبن تُشاركها عشرات الأجساد أحيانًا، وقطعة خبز أو بعض الجبن نادرًا، وربما بيضاتٌ إن حالف الحظ السجناء. وصف بعض الناجين كيف اضطرّ آخرون للّعق من بقع الماء المتسخّة على الأرض، وكانوا ينامون جالسين كي لا تُغطّي أجسادهم بالروث.
كان للطبيب الذي رافق جولات الحراس سمعةٌ مرعبة بين السجناء، لقّبوه “الجزار”. كل من طلب عناية طبية من هذا الرجل كان يعرض نفسه للضرب حتى يفقد وعيه، وبدا أن وجوده جزءٌ من نظامٍ متعمَّدٍ لإذلال وإبادة المحتجزين.
الإعدامات والعدّ
بحسب إفادات عددٍ من الناجين ومنظمات حقوقية، نفّذت السلطات إعداماتٍ جماعية منتظمة داخل المجمع وخارجه. آلافٌ قضوا بالشنق في عملياتٍ منظمة، ومرّاتٌ كان الحراس يجمعون عشرات المعتقلين كل بضعة أسابيع لتنفيذ أحكامٍ بالإعدام. الحديث عن الموت كان محظورًا: إنْ مات أحد، كان لزامًا على الباقين استعمال كلماتٍ مُقنّعة أقلّ خطرًا كي لا يُعاقبوا.
اللقاء غير المتوقع والأمل
التواصل مع العالم الخارجي كان محدودًا للغاية: زيارةٌ كل شهرين تقريبًا لبضعة دقائق، تفصل بين الزائر والمعتقل قضبان ممتدة من الأرض إلى السقف، وفي بعض الأحيان كانت تلك الزيارات مصدر ألم شديد، كما حدث عندما رأت زوجة رفيقٍ طفلهما المحبوس فانهار الأخير وامتنع عن الطعام حتى فارق الحياة. وأحيانًا كانت الزيارة بصيص أمل: قابل محمد أخاه أكرم في قاعة الزيارة وسمع صوته، فكان اللقاء بمثابة إحياء لشيءٍ كان يظنّه ميتًا.
التحرّر وليلة لا تُنْسى
لم يكن معظم السجناء يتوقّعون الخلاص يوماً؛ لكن في الثامن من كانون الأول ٢٠٢٤ حدث ما لم يتصوّروه. في منتصف الليل ساد ارتباكٌ وصراخ، سُمعت أصوات طائرات ومروحيات، أعقَبها إطلاق نار وهتافات “الله أكبر” بينما كانت أبواب الأزمنة تُفتح بالقوة. لم يفهم السجناء في البداية ما الذي يحدث، فظنّ بعضهم أنّهم يُعادون داخل النظام نفسه؛ غير أن دعوات الحرية علت: “اذهبوا حيث شئتم في سوريا — أنتم أحرار الآن!”
خرج الناجون إلى الهواء لأول مرّة بعد سنوات؛ البعض انهار باكيًا، آخرون ركضوا متمهلين ومرعوبين، ظنًّا أن ما حدث خدعة، بينما شعر آخرون بنشوة لا تُوصف. كانوا أحرارًا، لكن الحرية جاءت محمّلةً بذكرياتٍ عميقة وآثار لا تمحى.
بعد سقوط النظام، فتح المجمع للزوار والناجين الذين وجدوا داخله ما تركته سنوات الاعتقال: ملابس وأوعية وبطانيات، وأوراقًا تُدلِّل على حياةٍ قطعت فجأة. وكما خلّفت سنوات التعذيب آثارًا جسدية ونفسية لا تُمحى لدى من نجوا، تظلّ أعداد الضحايا الفعلية في صيدنايا لغزًا يطوقه الحزن وندوب لا تُحصى.