سراب جهود السلام الغربية الصراع

في كتابها الأخير بعنوان «فتوّة في زمن الحرب»، تحكي الباحثة في العلوم السياسية ڤجوسا مُصلِيُو (Vjosa Musliu) قصة حرب كوسوفو 1998–1999 بعيون نفسها حين كانت في الثانية عشرة من عمرها. تشرح كيف أن المنظمات الدولية، فور انتهاء القتال، بادرت إلى تنظيم ورش حول المصالحة وبناء السلام بين الصرب والألبان المقيمين في كوسوفو.

في الفصل الختامي الذي عنونه بـ«ذات الرداء الأحمر»، تروي جلسة شاركتها مراهقة في عام 2002. بدأ المسترشدون من بلجيكا والمملكة المتحدة الجلسة بسرد حكاية ذات الرداء الأحمر، وطلبوا من المشاركات إعادة تخيل الحكاية من منظور الذئب.

في النسخة المعاد تصورها، أدى قطع الغابات الواسع إلى إجبار الذئب على العزلة والجوع، حتى التقى بالفتاة ذات الرداء الأحمر وهو لم يأكل منذ أسابيع. بدافع الجوع والخوف من الموت، التهم الذئب الجدة والفتاة.

أثارت القصة حيرة مُصلِيُو وزميلاتها. بدا من الصعب أولاً قبول أن الجوع يمكن أن يبرر قتل طفلة وجدّتها، وثانياً إدراك مغزى وضع مثل هذه الحكاية في ورشة للمصالحة. شرح الميسّرون أن الهدف من التمرين هو إظهار أن لكل حكاية وجهات نظر متعددة، وأن الحقيقة قد تكون في الوسط، وأن ثمّة حقائق مختلفة.

وحتى وإن بدت الحكاية عبثية، فقد وجدت نفسي بعد أكثر من عشرين عاماً في موقف مشابه جداً. في تشرين الأول، حضرت ورشة نظّمها «منظّم الأمن والتعاون في أوروبا» لجمع نساء شابات من كوسوفو وصربيا وتعليمهن الحوار وبناء السلم.

كما حدث مع مُصلِيُو، كان لدينا ميسّر أجنبي وعدد من المتحدثين الدوليين. هذه المرة أضافوا أيضاً مساعدي ميسّر، واحد من كوسوفو وآخر من صربيا؛ وكان واضحاً أن كلاهما يعملان وفق نص مُفصّل لا يمكنهما الخروج عنه.

في اليوم الأول من التدريب طُلب منا أن نفسر ماذا نعني بالسلام، فتبادلنا قصصاً عديدة، كثير منها يحمل صدمات عميقة لازلت أسترجع بعض مآسيها. بدا أن الميسّر أقل اهتماماً بما نقوله وأكثر انشغالاً بتأخرنا لمدة خمس عشرة دقيقة. غاب عنهم تقدير عمق المشاعر والشجاعة والهشاشة التي حملتها تلك الحكايات.

يقرأ  هل تستطيع الأونروا استئناف عملياتها الكاملة في غزة بعد حكم محكمة العدل الدولية؟تأثير قرار المحكمة على جهود الإغاثة في ظل الصراع الإسرائيلي‑الفلسطيني

في اليوم الثاني عَرَضوا مبادئ التفاوض التكاملِي. واحدة من النِّقاط في العرض تقول إن التفاوض يتطلّب «فصل الأشخاص عن المشكلة». حين قرأتها شعرت بضيق في صدري ولم أستطع الاستمرار في القراءة.

كيف أفصل الأشخاص عن المشكلة وأنا أعرف ما حل بعائلتي ومجتمعي خلال الحرب؟ اضطرّ والداي للفرار إلى ألبانيا قبل دخول القوات الصربية حينا؛ وعند عودتهما وجدوا منزلهما مهدوماً ومكسوراً، وبعض الأغراض مفقودة، من بينها فستان زفاف والدتي. روى الجيران أن الجنود الصرب كانوا يحرقون فساتين زفاف النساء التي يعثرون عليها.

وفي مجتمعات أخرى تجاوزت الجرائم مجرد منازل مهدّمة. قُتل أو اختفى قسراً أكثر من 8000 مدني ألباني؛ وتعرّض أكثر من 20 ألف فتاة وولد وامرأة ورجل للاغتصاب.

تذكّرت قصة ناجية قالت: «خلال الاغتصاب كنت أحاول أن أحمي نفسي — كنت طفلة لا تتجاوز الحادية عشرة. لكنهم تركوا علي أثراً. نَحتوا صليباً فيّ وقالوا: ‚هذا ما ستتذكرينه منهم‘. دمرني ذلك الطفلاً من الداخل. نَحَتوا تلك العلامات بسكين».

عندما تعرف هذه القصص ومثيلاتها، يصعب فهم كيف يمكن القول لمجموعة نساء شابات عانين تهجيراً أو اغتصاباً أو تعذيباً أو فقداناً خلال الحرب إن المشكلة يجب أن تُفصَل عن الأشخاص.

أظن أن في ذلك سهولة للميسّرين الأجانب: بعد ورشة بناء السلام يركبون سيارة إلى المطار ويغادرون إلى بلادهم، تاركين خلفهم الناجين الذين لا يزالون يكافحون الانتقال من الحرب إلى السلام وكل الألم فيما بينهما. تذكّرت كلمات مُصلِيُو في خاتمة قصتها عن المصالحة بين الذئب وذات الرداء الأحمر: «يجب أن نسألهم كيف سيتصالحون إن كان الذئب قد التهم جداتهم؟»

طوال الورشة كنا جلوساً مخلوطين في قاعة المؤتمر، الفتيات من كوسوفو إلى جانب فتيات من صربيا. لكن مع استراحة الغداء انهارت محاولة الجلوس سوية والتقرّب، فاختارنا الجلوس على طاولات منفصلة.

يقرأ  ماكرون يقدّم خطة جديدة للخدمة الوطنية في فرنسا

عندما سألت المنظّمات عن سبب هذا الانقسام، أجبت بأن الورشة لم تتطرّق بعد إلى الفيل في الغرفة — الحرب نفسها. كيف نتصوّر وجود حلّ ونهائية من دون مناقشة ما أطلقها، وما حدث خلالها، وكيف انتهت؟ كيف نتصالح إن لم نتحدّث عن العدالة؟

في كل مرة حاولت أن أشدّد على تعقيد الوضع ما بعد الحرب — مثلاً بطرح موضوع ناجيات العنف الجنسي — كانت هناك تدخلات من الميسّرين تقول لي: «أنتِ لست جاهزة بعد» للتحدث في هذا الموضوع.

كان يغضبني أن يسمّي أحدهم مدى قدرتي على خوض حديث. هذا نغمة يستخدمها الغرب كثيراً تجاه بقية العالم: نقول لكم إنكم «غير جاهزين» للديمقراطية، «غير مستعدين» للحكم الذاتي، «غير موضوعيين» لمواجهة ماضينا.

تصبح الجاهزية وسيلة لقياس التحضّر، لتقرير من يتكلم ومن يجب أن يصغي. في هذه المساحات، «عدم الجاهزية» ليس مسألة قوة عاطفية؛ بل مسألة سلطة. إنها طريقة مهذّبة لقول إن حقيقتنا مزعجة، وأن ألمنا يجب أن ينتظر الترجمة والتهذيب والموافقة.

لا يفوتني أن منظّمي الورشة كانوا يدّعون تركيزاً على النوع الاجتماعي، وفي الوقت نفسه تجنبوا موضوع الاغتصاب كجريمة حرب لأنه يتجاوز مستوى العمق — أو بالأحرى مستوى السطحية — الذي خططوا له في جدول أعمالهم.

في اليوم الخامس من التدريب أعلن الميسّر أننا سنتناول السرديات التاريخية لفهم «وجهات نظر مختلفة وحقائق مختلفة، حتى وإن لم نتفق معها كلها».

بالنسبة إلى المنظّمين قد يكون هذا التمرين مفيداً. أما بالنسبة إليّ، فالتعامل مع «الوجهات» و«الحقائق» كمترادفين كان خطراً. قد يموّه الخطوط الفاصلة بين الوقائع والسرديات.

نعم، للحروب تجارب ووجهات نظر متعددة، لكن الحقيقة ليست شيئاً يمكن أن يتكاثر. الحقيقة ليست مسألة توازن أو تسوية؛ إنها ترتكز على الأدلة ومتجذرة في الوقائع. حين نتحدى الوقائع أو نُجادلها نُخاطر بتشويه الحقيقة؛ نسمح للأكاذيب بأن تبدو تفسيرات معقولة للتاريخ.

يقرأ  ستة وزراء خارجية أوروبيون يدينون خطة إسرائيل لشن عملية في مدينة غزة

وهكذا جلست في ذلك اليوم، بعد ستة وعشرين عاماً على نهاية الحرب، أستمع إلى رسالة مؤلمة ومستهجنة وخطيرة: هناك حقائق متعددة لقصة واحدة. قيل لنا إنه حان الوقت لنتجاوز الماضي وننظر إلى المستقبل، لنتصالح ونجد طريقة لنعيش مع بعضنا البعض.

لا يسعني إلا أن أفكر كيف خلال سنوات قليلة سيُدرّب آخرون الفلسطينيين الذين شهدوا فظائع إبادة وهم أطفال على بناء سلام على الطراز الغربي.

كيف سيحدقون في عين فلسطيني ويقولون له إن هناك حقائق متعددة لقصة إبادة غزة؟ كيف يمكن أن يُسمّى ذلك تشجيعاً للسلام؟

إذا كان هذا ما يسميه الغرب اليوم بناء السلام، فأنا لا أرغب في أن أكون جزءاً منه.

الآراء الواردة هنا تعبر عن رأي الكاتبة ولا تعكس بالضرورة سياسة التحرير في الجزيرة.

أضف تعليق