غزة: امرأة تبحث عن زوجها وشقيقها بين الجثث — تغطية حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

دير البلح وخان يونس، قطاع غزة — تحدق اسراء العرير في شاشة كبيرة كما فعلت مرات عديدة منذ بدأت الجثث تصل من إسرائيل.

العادة تتكرر: كلما سلمت إسرائيل جثثاً فلسطينية تصل مباشرة إلى مستشفى ناصر بجنوب غزة، حيث يقوم طاقم القسم الشرعي بتصويرها. تُعرض صور القتلى على شاشة في قاعة واسعة يجلس فيها أهل المفقودين وأصدقاؤهم يراقبون، يأملون أن يتعرفوا إلى من فقدوا ليمنحوهم دفناً لائقاً وقَبْراً يذكرون فيه أحبّتهم.

إسراء لا تبحث عن شخص واحد فقط، بل عن اثنين: زوجها ياسر الطويل وشقيقها ضياء العرير. تظن أنهما قتلا. فقد انقطع الاتصال بهما في 7 أكتوبر 2023 — يوم اندلاع الحرب في غزة — وكانا يُعتقد أنهما قرب السياج الحدودي مع إسرائيل عندما اندلعت المعارك ولم يعُد لهما أثر.

بدأت إسراء رحلاتها المتكررة من منزلها في دير البلح إلى مستشفى ناصر في خان يونس في 14 أكتوبر، بعد أربعة أيام من تهدئة وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس. في ذلك اليوم سلّمت إسرائيل 45 جثة كجزء من الاتفاق، وعادت جثث أخرى في الأيام التالية.

“أمَنِّي ووالدة زوجي أوكلتا إليّ هذه المهمة المؤلمة مع أخي وزوج أخي لأنهما قالا إنهما لا يطيقان رؤية المشهد,” تقول إسراء. “لم أصدق أنني وصلت إلى هذا الحد: أبحث بين الموتى عن زوجي وشقيقي لأدفنهما، ولأحصل على قبر وذكرى.”

لكن المشهد الذي استقبل إسراء والمئات ممن يحدقون بشاشات العرض كان مروّعاً. كثير من الجثث تحللت، وأُصيبت علامات واضحة من التعذيب والانتهاك. الجيش الإسرائيلي لم يزود في الغالب بأي معلومات سِيَرية عن الجثث التي أرسلها إلى غزة.

“كانت أصعب لحظات حياتي. كل صورة كانت تجعلني أصرخ من هول ما فعلوه بالجثث,” تقول إسراء. “كدت أفقد صوابي وأنا أقارن صورة زوجي الجميلة في ذاكرتي بتلك الصور الرهيبة على الشاشة.”

يقرأ  توجه جنود الاحتياط الإسرائيليون لأداء الخدمة استعداداً لهجوم متوقع على مدينة غزة

تضيف: “رأيت أجساداً حُشِيت أفواهها بالحجارة والرمل والمسامير. البعض كان معصوب العينين ومكبلاً، وبعضهم قطعت أظافره أو أصابعه، وآخرون فقدوا أطرافاً، وبدوا كما لو دُحرجوا تحت دبابات. كان ذلك تعذيباً همجياً غير إنساني — شيء لم أتخيله أبداً. بكيت طوال الطريق إلى البيت ووجدت قلبي كأنه قد احترق تماماً.”

استمرّت الجلسة أربع ساعات، ومع محاولات متكررة لمعاينة كل صورة اتضح في النهاية أن ياسر وضياء لم يكونا بين المعروضين.

الغياب

كان ياسر في أوائل الثلاثين عندما اختفى. كان عادة يقضي ليلة الجمعة مع أصدقائه قبل أن يعود صباحاً. آخر مرّة رأتْه فيها إسراء كانت ليلة الجمعة، في 6 أكتوبر 2023. “كان كل شيء طبيعياً تلك الليلة,” تروي إسراء. “اتصلت به قبل أن أنام نحو الواحدة صباحاً؛ كانت ابنتنا الوحيدة عبير، ذات الأربع سنوات، تعاني حرارة. طمأنني أنه سيكون بالبيت عند السادسة صباحاً.”

استيقظت إسراء صباح السبت على صوت الصواريخ والقصف. “لم أصدق ما يحدث. شعرت بالرعب وحاولت الاتصال به فوراً لكن هاتفه كان خارج الخدمة,” تتذكر. لم تكن هناك كهرباء أو إنترنت لتفهم ما الذي يجري، فذهبت إلى شقة جارها لتتابع الأخبار وهناك أدركت حجم الكارثة — تعمل إسراء صحفية.

تمكنت أخيراً من الوصول إلى أحد أصدقاء ياسر الذي أخبرها أن مجموعة الأصدقاء، من باب الفضول، ذهبت إلى شرق خان يونس قرب مكان سكنهم عندما سمعوا عن هجوم المقاومة على جنوب إسرائيل، وأنهم تفرّقوا وسط فوضى الحدود. لم يعرف الصديق مصير زوجها. وفي الأسوأ من ذلك أخبرتها عائلتها أن شقيقها ضياء، البالغ 24 عاماً، أيضاً غائب بعدما ذهب مع أصدقائه إلى منطقة الحدود.

مع تزايد الفوضى نصحها أحد أصدقاء ياسر أن تبحث في المستشفيات القريبة عن زوجها بين الجرحى أو القتلى. “تركت ابنتي مع جارتي وذهبت أنا، أجري بين الجثث في المستشفيات,” تقول إسراء ممسكة بدموعها. “قَلْبِي كان يَتَكَسّر. لم أتخيل أن زوجي قد يكون ميتاً أو واحداً من تلك الجثث.”

يقرأ  محكمة باكستانية توجّه تهمة لرجل بقتل مؤثرة مراهقة على تيك توكأخبار المحاكم

لم تجده بين الجرحى ولا القتلى. وبحثت عائلتها عن شقيقها في مشافي مدينة غزة فلم يجدوا أثره كذلك. “عدت إلى البيت محطمّة تماماً. لم يكن هناك شيء أخافني أكثر من أن أفقد زوجي وشقيقي في نفس اليوم دون أن أعرف شيئاً عنهما.”

تصف إسراء الوحدة القاسية التي قضت فيها الليل مع ابنتها للمرة الأولى منذ زواجها عام 2019. “كنا نعيش حياة سعيدة ومليئة بالحب؛ كان ياسر زوجاً محبّاً وأباً عطوفاً، كريماً معنا. فقدانه مزّق قلبي تماماً,” تقول وهي تبكي.

بحث لا ينتهي

منذ ذلك الحين، لم تُتاح لإسراء فرصة الحداد على ياسر أو ضياء. لقد أمضت سنتين تبحث بلا نهاية، تنتظر خبراً، صورة، أو حتى قبر يضع أمامه وردة وذكرى. اتصلت عائلتها بالصليب الأحمر ووزارة الصحة الفلسطينية، لكنها لم تتلقَّ أي معلومة. ثمة احتمال ضئيل أن يكونا محتجزين، إلا أن إسراء وعائلتها يميلون إلى الرأي الأرجح بأنهما قُتِلا.

مع امتداد الحرب، وقعت إسراء وعائلتها، كما حال معظم أهل غزة، ضحية التشريد والخوف، متنقلين أكثر من تسع مرات داخل القطاع.

كانت آلام الحرب تدفعها أحياناً إلى التفكير بأن زوجها وشقيقها قد نُجّيا من المعاناة التي لا تُطاق والتي هي نفسها تُعانيها، لكن العبء حطَّ عليها وحدها. قالت إسراء بحزن: «قررت أن أعود للعمل صحفية مستقلة مع مؤسسات عربية ودولية لأشغل نفسي وأكفُّ عن الغرق في الحزن».

أعادت صفقة وقف إطلاق النار الأمل في أن يُعثر أخيراً على ياسر وضياء. منذ رحلتها العقيمة في 14 أكتوبر، عادت إسراء مراراً إلى مستشفى ناصر. العملية نفسها تتكرر: تجلس أمام الشاشة الكبيرة، ثم تراجع الصور مرة أخرى عبر موقع وزارة الصحة متى ما توفرت لديها شبكة.

يقرأ  إير كندا تصدر تحذيراً نهائياً للمسافرين بعد إلغاء أكثر من 700 رحلة بسبب الإضراب

لكن الحالة التي وُجدت عليها الجثث صعّبت التعرف عليها، ما أوقع في كثير من الأحيان في لبس وحيرة. «كنا نطلب من الطاقم أن يعيد صورة معينة، أو أن يقربوا على يد أو عضو لنتأكد. الجميع كان متوتراً، متشبثاً بأمل ضعيف بالعثور على مَن يحبون»، تقول إسراء.

تذكر حادثة أمّ صاحت من شدة الفرح بعد تعرفها إلى ابنها من ثيابه، ثم سقطت باكية، لكن الشعور بالسّكينة حلّ عليها لأنهم عثروا عليه أخيراً. «كنت سعيدة من أجلها رغم ألمِي. ظللت أُمعن النظر في أيادي الجثث، أبحث عن خاتم زواج زوجي»، تضيف.

في مرة اقتنعت إسراء أن جثة معروضة هي لزوجها. «فحصت كل التفاصيل واطمأنت أنه هو. ذهبت للمستشفي مفعمة بالأمل لأدفنه أخيراً، لكن عند التحقق لم تتطابق الملابس الداخلية وشكل الجثة». يطلب قسم الطب الشرعي علامات تعريف واضحة قبل تسليم أي جثة إلى ذويها.

شهدت مشادات بين ثلاث عائلات على جثة واحدة، كل منهم مقتنع أنها لابنه. قال أحد الآباء أخيراً إنه يستطيع إثبات ذلك بعلامة إصابة قديمة في القدم، فأكد الأطباء الشرعيون ذلك وسلموها إليه.

«إنها دنيا لا عدل فيها»، تقول إسراء. «للتعرّف إلى جثث إسرائيليين محتجزة في غزة دخلت تجهيزات حفر وكشف كاملة، بينما لا يُسمح بدخول جهاز واحد لتحليل الحمض النووي هنا، وتُدفن عشرات الجثث يومياً من دون هوية. أي منطق هذا؟»

تصف إسراء هذه المرحلة بأنها ألم لا يُطاق. توسّل إليها الأصدقاء والأقارب أن تكف عن تعذيب نفسها وتستريح بعد كل مجموعة من الجثث تراجعها. «قالوا لي: ارحمي نفسك، سندفنُك قبل أن ندفن زوجك، كفي عن هذا»، تقول. لكنها تعجز عن التراجع: ماذا لو كان زوجها أو أخوها من بين تلك الجثث ولم يتعرف عليهم أحد؟ لن تغفر لنفسها ذلك.

«كل ما أريده أن أكرّمهما بدفن لائق».

أضف تعليق