منذ نهاية الحرب الباردة أخذت تغدو سائدة في الغرب أسطورة قوية: فكرة «العقوبات الذكية» كأداة سياسة خارجية نظيفة ودقيقة وإنسانية تُفترض أنها بديل عن الحرب. الفكرة تفترض أنه بتركيز الضربات على مصادر دخل النظام المعادي وتمويله يمكن إجباره على الانصياع من دون إلحاق أذى بمواطنيه.
هذه أوهام خطيرة. بحثنا المنشور مؤخراً يوضح أن نظام العقوبات على إيران لم يكن ضربة جراحية، بل كان مطرقة هدمت الفئة التي تمثّل أفضل أمل لمستقبل أكثر اعتدالاً واستقراراً: الطبقة الوسطى. وفي هذا المعنى، تُعدّ تدمير الطبقة الوسطى الإيرانية فشلاً استراتيجياً كبيراً للغرب.
صعود الطبقة الوسطى الحديثة في إيران استغرق قرناً. بدأ في عصر خاندان بهلوي بظهور طبقة علمانية من الموظفين والمهنيين والمديرين الذين أسسوا بنية تحتية حديثة تمولها عائدات النفط. وبعد ثورة 1979 واصلت الجمهورية الإسلامية توسيع صفوف الوسطى، فرفعت ملايين العائلات من هامش الفقر إلى عالم جديد من التعليم والفرص.
هذه الطبقة المتعلمة والفاعلة تحولت إلى أساس سياسي للتغيير؛ كانت قاعدة القوة للحركة الإصلاحية بقيادة محمد خاتمي في أواخر التسعينيات، ووجوهاً وسط جماهير حركة 2009 الخضراء ومحرك الاحتجاجات تحت شعار «زن، زندگی، آزادی» («امرأة، حياة، حرية»). كما كانت رواد الأعمال الذين بنوا مشهداً تقنياً ناشئاً في طهران من الصفر، فأنشأوا منصات محلية شبيهة بأمازون وأوبر لخدمة الملايين.
هذا المحرك كان صورة لإيران حداثية تتطلع إلى المستقبل. العقوبات قضت عليه كلها.
كيف نعلم يقيناً أن السبب هو العقوبات وليس سوء إدارة مزمن من قبل النظام؟ لتجاوز الحكايات والادعاءات الحزبية اعتمدنا منهجية صارمة: بنينا «إيران افتراضية» من البيانات. في دراسة محكّمة نشرت في مجلة الاقتصاد السياسي الأوروبية استخدمنا تقنية إحصائية متقدمة تُعرف بالطريقة التركيبية للتحكم (synthetic control)، فكوّنّا توأماً بياناتياً لإيران من مزيج مرجّح لدول مشابهة مثل تونس وقطر وماليزيا وأذربيجان وإندونيسيا، دول كانت تساير إيران اقتصادياً واجتماعياً قبل 2012 ولم تُفرض عليها عقوبات دولية مماثلة.
هذا الأسلوب الدقيق مكّننا من رؤية ما كان سيحصل بغياب العقوبات، فزوّدنا بخط أساس تجريبي واضح لقياس الضرر الحقيقي. صحيح أن إيران تعرضت لعقوبات متفرقة لأكثر من أربعة عقود بسبب سياساتها الخارجية المتشددة، لكن شدة ونطاق العقوبات الجديدة التي فُرضت في 2012 كانت على مستوى أعلى بكثير مقارنة بالسنوات السابقة.
النتائج مروعة. ابتداءً من 2012 بدأت الطبقة الوسطى الإيرانية تتقلّص بشدة مقارنة بتوأمها الخالٍ من العقوبات في نموذجنا. بين 2012 و2019 تسببت العقوبات بفجوة وسطى بمتوسط 17 نقطة مئوية بين الحجم المحتمل والحجم الفعلي للطبقة الوسطى. وبحلول 2019، بعد عام على حملة «الضغط الأقصى» التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أصبح الأثر التراكمي مدمرًا: انتقلت الطبقة الوسطى إلى أن تكون أصغر بنحو 28 نقطة مئوية مما كان ينبغي أن تكون عليه.
هذه أرقام ليست مجرد بيانات نظرية؛ إنها ملايين بشر حقيقيين: مهندسون وأطباء ومعلمون وأصحاب مشاريع صغيرة ومتقاعدون كانوا قد بلغوا قدرًا من الأمان الاقتصادي، فإذا بهم يرون كل ذلك يتلاشى تحت وطأة عقوبات ما بعد 2012.
هذا التحول ليس فقط مدلولاً في الإحصاءات، بل ينعكس في إدراك الإيرانيين لذواتهم. قبل العقوبات، في 2005، أظهر مسح عالمي ممثل (مسح القيم العالمية) أن 79% من المستجيبين اعتبروا أنتم (أنهم) من ذوي الدخل المتوسط؛ لقد وصلوا. في أوائل 2020 تهاوى هذا الرقم إلى أقل من 64%. انهيار مدوٍ أكدّه اقتصاديون يعملون داخل إيران على أرض الواقع.
هذا الانحدار الاجتماعي لم يكن صدفة؛ بل نتيجة مباشرة لآليات اقتصادية متوقعة. أولاً، جوعت العقوبات البلاد من الاستثمار الأجنبي اللازم لخلق وظائف ماهرة ومؤدّية. رأس المال الذي كان سيشيّد مصانع أو يمول شركات تقنية ناشئة تبخّر.
ثانياً، قلّصت قدرة البلد على التبادل التجاري. أُفلست آلاف الشركات الصغيرة والمتوسطة، العمود الفقري لأي مجتمع سليم، إذ عجزت فجأة عن استيراد قطع غيار أساسية أو تصدير منتجاتها النهائية.
وأخيراً، وربما الأكثر قسوة، حفّزت العقوبات تضخماً متفشياً. مع انهيار العملة أُمحيت مدخرات الأسر. بالنسبة للمهنيين أصحاب الرواتب والمتقاعدين على دخل ثابت — جوهر الطبقة الوسطى — كان ذلك ضربة كارثية. صاروا «الفقراء الجدد». ونتيجة لذلك ازداد حجم العمالة غير الرسمية بشكل ملحوظ.
طبعاً، لم تعمل العقوبات في فراغ؛ لقد نزلت على اقتصاد كان فعلاً معاقاً بفعل فساد ونكوص إداري من جانب الحكومة الإيرانية. تحليلنا، مع ذلك، أخذ بعين الاعتبار هذه الضعفيات المسبقة صراحة. عملت العقوبات كمضاعف للبؤس، فحوّلت وضعاً اقتصادياً صعباً إلى كارثة اجتماعية لا مفر منها.
عندها يتحول سرد اقتصادي إلى سرد عن ظلم عميق. الطبقة الوسطى في أي بلد هي مصدر الاستقرار وأقوى القوى المساندة للاعتدال: تشكّل عازلاً ضد التطرف، وتدافع عن الإصلاحات التدريجية، وتملك الموارد للحفاظ على حركات سياسية منظمة.
بتمزيق هذه الطبقة لم تُحدث الحكومات الغربية معاناة فحسب؛ بل مهّدت الطريق أمام المتشددين الذين ادّعت أنهم ضدهم. صار بالإمكان للنظام أن يُحمّل الأجنبي مسؤولية كل معاناة، وما زاد في قبضته أن الاقتصاد المريض منحَه سلطة أكبر على شعب يائس.
المفارقة القاسية في سياسة «الضغط الأقصى» أنها أوجدت الظروف الأمثل لازدهار أقصى عناصر النظام. عندما يصبح هم الناس الأساسي تأمين قوت اليوم، يصبح التنظيم من أجل الإصلاح الديمقراطي أمراً أشد صعوبة. اليأس لا يولد الديمقراطية؛ بل يولد عدم الاستقرار ويعزّز السلطوية.
قيل إن العقوبات كانت ضربة جراحية، لكنها في الحقيقة كانت حرباً اقتصادية على مجتمع بأكمله — وحرباً عقيمة على نحو ذاتي.
مع إعادة فرض عقوبات شاملة من قبل جهات دولية اليوم، على من روّجوا لها أن يسألوا أنفسهم: هل نجعل العالم أكثر أمناً أم نخلق بؤراً جديدة من البؤس ونمكّن الجهات التي ندّعي معارضتها؟
هذه العقوبات ليست مختلفة عن سابقاتها؛ إنها مقامرة متهورة ستعاقب قادة المستقبل في البلاد بدل قادتها الحاليين.