منذ أسابيع، تصدر القوات الإسرائيلية أوامر تهجير قسري لسكان مدينة غزه، وتخترق الأبراج وتُجري قصفاً مكثفاً على الأحياء. مئات الآلاف فرّوا نحو الجنوب، لكنهم لم يجدوا فيه ملاذاً آمناً.
بالأمس فقط، ودّعنا بثقلٍ في القلوب وأسفٍ بالغ ثلاثة من أقارب ابن عم والدي، يوسف. المبنى الذي لجأوا إليه في الجنوب تعرّض للقصف بعد أيامٍ قليلة من فرارهم من المدينة؛ قُتلت نداء زوجة يوسف، وابنتهما رؤى البالغة من العمر 19 عاماً، وطفلهما حمود الذي لم يتجاوز 11 عاماً.
الجنوب ليس منطقة آمنة كما تدّعي سلطات الاحتلال؛ خيام النازحين تُستهدف يوميّاً.
الحقيقة المؤلمة أن أهل مدينة غزة صار أمام خيارين موتيين: البقاء أو الرحيل؛ كلاهما يحملان الموت.
انا قررت البقاء. البقاء في المدينة خطر لا يُستهان به، لكنه يعني أيضاً عدم التخلي عن البيت والحي والجذور والهوية. هنا نشأتُ وقضيت طفولتي وصباي؛ هنا أول نفسٍ، وأول خطوة، وهنا تتجمّع العائلة في كل مناسبة، وهنا تَزهر الأحلام وتتشكّل الذكريات. هذه المدينةُ موطني الذي تمنّيت أن أموت فيها شِيباً. التخلي عنها هو خسارةُ الذات.
كان زملائي وأصدقائي يسألونني: «إلى أين الوجهة إن تقدمت قوات الاحتلال نحو حيك؟» كنت أتوقف أحياناً لأفكّر، ثم أجيب: سأتنقّل بين الأحياء وأتوّجه شرقاً داخل المدينة؛ الخروج منها غير مطروح.
كانوا يصرّون قائِلين: «ولكن التوغل البري يتقدم في قلب المدينة والدبابات تقترب من حيك؛ فارحلي إلى الجنوب مع عائلتك، يا هدى.» رديّ كان واحداً: وجهتي الوحيدة هي مدينة غزة. لا أعرف أحداً في الجنوب، ولا خيمة أو مكان مأوى لي هناك.
قبل أسبوع قرّرت تحضير حقيبتين تحسباً لضرب المبنى الذي أقيم فيه أو اضطراري للنزوح شرقاً. تساءلت كيف سأضع كل ما أريد أخذه في حقائبٍ قليلة. في النهاية اقتصرت على زيّين شتويين وزيّين صيفيين، وأضفت كتبي، دفاتري، ألبوم صور، بعض الإكسسوارات، عطري المفضّل، سماعاتي، وشاحن الهاتف.
ليست هذه المرة الأولى التي أتهيأ فيها للفرار.
في نوفمبر 2023 اقتحمت قوات الجيش حيي دون إنذار، فهربت عائلتي وتحتنا قذائف المدفعية المتواصلة. كانت المرة الأولى التي أرى فيها دبابات وجنوداً إسرائيليين وجهًا لوجه.
ثم، بعد أشهرٍ قليلة في مطلع 2024، طُوقنا لمدّة تسعة أيامٍ مريرة. لم نتحرّك؛ القصف كان مستمراً ليل نهار، ونفدت الأطعمة، والمياه كانت شحيحة.
وفي النهاية اقتحمت قوات الاحتلال منزلنا وفجرت فيه عبوات متفجّرة.
أجبرونا على الوقوف في حفرة مُقلمة في الشارع، محاطين بالدبابات والجنود المسلّحين. أُجبر الرجال على خلع ملابسهم، واعتُصرت أعينهم بأربطة، وربطت أيديهم وأرجلهم، وبقوا على تلك الحال سبع ساعات في بردٍ قارس. ثم أُجبرنا على الذهاب جنوباً دون السماح لنا بأخذ شيء. لم نتمكن سوى من العودة إلى المدينة في يناير من هذا العام.
هذه الذكريات المرعبة لا تزال تنبض فيّ كجرح لم يلتئم. أخشى أن يعاد المشهد مرة أخرى.
أحاول صرف الذهن بالدراسة للامتحانات النهائية وإنجاز بعض المهام، لكن ذلك صعب. أحياناً أجد نفسي أحسب الثواني بين هدير الانفجارات. كل ليلة أتساءل إن كانت الليلة التي ستقتحم فيها القوات بيتنا. الخوف مستمرّ، يضغط على الصدر كما لو ثِقل لا أطيقه.
كل صباح يبدو لي معجزة أنني أستيقظ حيّة. أنظر إلى أسرتي وأمتص دفء الوجود الذي صار أثقل من ذي قبل.
الطعام والماء نادران. لم نرَ خضاراً أو فواكه أو بيضاً ولحماً منذ شهور. في الأسواق لا يكاد يُعثر إلا على رقائق البطاطس، النودلز، نوتيلا، والبسكويت. المعلّبات باتت فوق طاقة الناس المادية. الطحين والأرز والعدس موجودة بكميات قليلة وأسعار مرتفعة.
المستلزمات المنزلية أيضاً نادرة، ولا سيما الورق الصحي والفوط النسائية. الأدوية شبه مستحيلة الحصول عليها، ما يترك المرضى وكبار السن عاجزين. للحصول على الماء يجب مخاطرة المشي لمسافات طويلة لملء أوعية. الحطب للطبخ صار رفاهية: كيلوغرامٌ يبيع بدولارين، لا يكفي إلا لغلي إبريق شاي.
الموت يُحاصر المدينة من كل جهة. تنهارُ المدينة تدريجياً، ويحترق روحي معها.
لست متأكدة إن كنت سأنجو هذه المرة أم لا. لكن ما أعرفه يقيناً أنني سأبقى في مدينة غزة حتى النهاية. قد تمنح التهجير فرصة نجاة جسدية بنسبة واحد في المئة، لكنني لا أبتغي وجوداً يقتل روحي ويطمس ذاكرتي وهويتي وجذوري.
أدرك أن بقائي اختيارٌ يتجاوز ما يُتوقع منا. إسرائيل تريد مدينةً خاوية وصامتة وممنوعة الوجود؛ لكن طالما عائلةٌ واحدة ترفض الرحيل، ستعيش المدينة.
الآراء الواردة في هذا المقال خاصة بالمؤلفة ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة. يرجاء تزويدي بالنص المراد إعادة صياغته وترجمته.
لم يتم ارفاق أي نص. أرسله وسأعيد صياغته وأترجمه لك فورًا.