«كسروا عنقه» عائلات المختفين قسريًا في سوريا لا تزال تطالب بالحقائق والعدالة

أمة لا تزال تبحث عن الحقيقة

مرّ عام على سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، وما يزال السوريون لايزالون يطاردون الحقيقة ويطلقون أسئلة بلا أجوبة واضحة. حيث انقلبت صور القادة على أعمدة الإنارة لتُستبدَل بوجوه المفقودين، صورٌ مصوّرة ومطبوعة ملصوقة على واجهات المحال والجدران. تبحث العائلات في المقابر والسجون المهجورة باحثةً عن شَظية قماش أو ورقة قد تكشف شيئاً من مصير أحبتهم.

خلال أكثر من ثلاثة عشر عاماً من الحرب التي أودت بحياة أكثر من نصف مليون إنسان وأخليت نصف البلد من ساكنيه، اختفى بحسب تقديرات مفوضية الدولة للمفقودين ما بين 120 ألفاً و300 ألف شخص. وكان الاختفاء منظومة مقصودة: شبكة من المخبرين، أجهزة أمن سرية، ملفات تخضع للسرية، وجو من الخوف. جرت الاعتقالات بلا مذكرات توقيف، أحياناً بسبب خصومة جار، أو إشاعة أقرباء، أو رشوة.

في الأيام التي أعقبت انهيار النظام احتفل بعض السوريين، فيما تسابق آخرون إلى أبواب السجون. في سجن صيدنايا أمسك الناس بما وقع تحت أيديهم من مستندات بينما تُداس الأوراق ويطأها الحشد، فتختفي أدلة حاسمة تحت الأقدام. فتش أقارب المعتقلين حتى تحت أرضيات الغرف، وما وجدوه غالباً كان حبالاً، سلاسل، وأسلاكاً كهربائية. لم تُستعاد سوى عائلات قليلة بعد سقوط الأسد، أما الباقون فظل الحزن يرافقهم مع بصيص من الأمل، في غياب أي يقين حول مكان المفقودين.

الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشراع تعهّدت بكشف الحقيقة. في مايو 2025 صدرت مراسيم تُنشئ المفوضية الوطنية للمفقودين ومفوضية العدالة الانتقالية. وُكّلت مجالس استشارية ويُعدّ إطـار تشريعي للعمل، لكن التقدم بطيء في بلد جُرّد من المختبرات والمتخصصين والتمويل. يعترف المسؤولون بأن المهمة هائلة: بناء قاعدة بيانات وطنية، تجنيد خبراء طب شرعي، إقامة قدرات تحليل الحمض النووي، والبحث عن الجثث قبل أن تمحوها عوامل الزمن والتحلل.

يقرأ  اعتقال مشتبه به عقب مقتل السياسي الأوكراني أندري باروبي في حادثة إطلاق نار

على الأرض تكفّل بقدر كبير بهذه المهمة من كانوا يخرِجون الناجين من الركام: متطوعو الدفاع المدني السوري، الخوذ البيضا الذين يوثّقون ويصوّرون ويُدرجون شواهد الهوية المتبقية كقطع الملابس والأسنان والعظام. تُعلّب كل بقايا وتُرسل إلى مراكز تعريف، وهناك يتوقّف المسار: تبقى صناديق العظام مُختومة ومخزنة. ووفق تقرير الخوذ البيضاء، لم تُعاد أي رفاتٍ إلى أي عائلة حتى الآن. يقول مسؤولون وعاملون إنسانيون إن غياب مختبرات الحمض النووي والمتخصّصين ونظام تعريف فعّال يجعل من العظام مجرد مخزون محفوظ، حتى وإن كانت العائلات شبه متيقنة من هُوية أصحابها.

في الخامس من نوفمبر وقّعت المفوضية الوطنية للمفقودين اتفاق تعاون مع اللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP)، والمؤسسة المستقلة لشؤون المفقودين في سوريا، واللجنة الدولية للصليب الأحمر. تقول السلطات إن هذه المؤسسات ستجري تحقيقات في الجرائم الماضية، وتبني قاعدة بيانات وطنية للمفقودين، وتدعّم العائلات، وفي نهاية المطاف تعمل على تحديد هوية الجثث وإعادتها.

بيّن الاتفاق بداية عملية وطنية شاملة للبحث عن الحقيقة وتحقيق العدالة، والتزام كل الأطراف بتبادل الخبرات والمساعدة في بناء العمود الفقري لنظام تعريف فعال. لكن حجم المهمة هائل؛ فلا أرقام رسمية موثوقة، وتقديرات المفقودين تتراوح بين 120 و300 ألف شخص مبنية على مصادر متفرقة بلا قاعدة بيانات موحّدة.

قبل أي محاولة تعريف يجب جمع الموجود من سجلات احتجاز، وثائق مدنية، ملفات عسكرية، وقوائم بحوزة فصائل معارضة وجمعيات الناجين مثل «عائلات قيصر»، و«عائلات من أجل الحرية»، و«جمعية صيدنايا». ثم ينبغي جمع شهادات الناجين والأهل، واستجلاب معلومات من مسؤولين وحراس سابقين قد يعلمون أماكن النقل أو الدفن. كل هذا يجب إدخاله في قاعدة بيانات مركزية لم تُنشأ بعد.

«لا يمكنك أن تبدأ فوراً بالبحث عن الأجوبة»، تقول زينة شهلا، عضو المفوضية الوطنية للمفقودين. «عليك أولاً تهيئة الأرضية». حالياً هناك مركز تعريف واحد فقط في دمشق أُقيم بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لكن لا مختبر حمض نووي مُخصّص. وُعدت مكاتب في مدن أخرى لكنها لم تُفتتح بعد. تضيف شهلا: «احتياجاتنا هائلة — احتياجات تقنية ومالية وبشرية. معظمها غير متوفر في سوريا، خصوصاً الموارد العلمية. لا مختبرات DNA، ولا مختبرات طب شرعي، ولا أطباء مختصون. نحتاج موارد كثيرة. وهذه المعركة معقّدة لأنها تمس ملايين الناس؛ نحتاج أن نعمل بسرعة، وفي الوقت نفسه لا يمكننا التعجّل».

يقرأ  حماس تحتجز رهائن في منازلٍ وخيامٍ فوق سطح الأرض بمدينة غزة لعرقلة الهجوم البري للجيش الإسرائيلي

تُشير السلطات إلى حجم الخراب: ثلاثة عشر عاماً من الحرب، مئات الآلاف من المفقودين، ومؤسسات أُفرغت بفعل العقوبات. كثيرون لم يبلغوا عن مفقوديهم بعد، خوفاً مما قد يجلبه الإبلاغ، فيما يعيش حوالى واحد من كل خمسة سوريين الآن في الخارج، مبدّدين عينات مرجعية قد تُستخدم للمطابقة.

تشعر بعض عائلات المفقودين أنها في قاع أولويات الدولة، بينما تفهم جمعيات أخرى مثل «عائلات قيصر» أن هذا المسار سيأخذ وقتاً. وحتى لو وُفّق في تنفيذ كل الوعود، فالمسافة من مذكرة تفاهم موقعة في دمشق إلى قبر مسمّى قد تمتد لعقود، وربما لا تحظى كثير من العائلات المنتظرة في أنحاء سوريا بفرصة رؤية أبناءهم يُعادون إليهم في حياتهم.

أضف تعليق