في وقتٍ سابقٍ من هذا الأسبوع، حطّت رحلةٌ تقلّ 153 فلسطينياً من قطاع غزة في جنوب أفريقيا من دون أوراق ثبوتية. بقي المسافرون محبوسين على متن الطائرة لمدة اثنتي عشرة ساعة قبل أن تسمح لهم السلطات الجنوب أفريقية بالنزول لأسباب إنسانية، بعدما قالت إنها لم تُبلغ من قِبل الإسرائيليين بخصوص رحلَة الترحيل.
كان من بين ركاب الطائرة من دفعوا ما بين 1500 و5000 دولار لشركة تُسمّى “المجد أوروبا” لمغادرة غزة. تُدار العملية على الأرض من قِبل مجموعة محدودة من الفلسطينيين بتنسيق مع سلطات الاحتلال الاسرائيلي، وقد سُجّلت عمليتان مماثلتان على الأقل منذ حزيران/يونيو الماضي.
هذا المخطط الجديد جزء من سلسلة طويلة من الإجراءات التي تسعى إسرائيل من خلالها لتفريغ غزة من سكانها — هدفٌ ظلّ رهن سياسات نظام الفصل العنصري منذ مطلع القرن العشرين.
منذ انطلاقة الحركة الصهيونية اعتُبر الفلسطينيون عقبة ديموغرافية أمام إقامة دولة يهودية. في أواخر القرن التاسع عشر كتب تيودور هرتزل، أحد مؤسسي الصهيونية، أن تهجير العرب من فلسطين يجب أن يكون جزءاً من الخطة الصهيونية، مقترحاً نقل الفقراء عبر الحدود وتجريدهم من فرص العمل بطريقة هادئة وحذرة.
وفي عام 1938 أعلن ديفيد بن غوريون، زعيم صهيوني بارز سيصبح لاحقاً أول رئيس وزراء لإسرائيل، تأييده لـ«الترحيل» القسري ورأى في ذلك أمراً لا يحمل ما يُسمّى باللا أخلاقي. ونفّذت شقّاً من هذه الرؤية بعد عشرة أعوام خلال النكبه عام 1948، حين أُجبر أكثر من 700 ألف فلسطيني على الخروج من بيوتهم فيما وصفه المؤرخ الإسرائيلي بني موريس بأنه «تطهير عرقي ضروري».
بعد 1948 استمرّت إسرائيل في سياسات التهجير. في خمسينيات القرن الماضي نُقِل عشرات الآلاف من الفلسطينيين والبدو الفلسطينيين قسرياً من صحراء النقب إلى شبه جزيرة سيناء أو إلى غزة التي كانت تحت إدارة مصر آنذاك.
بعد حرب يونيو 1967، حين احتلت إسرائيل غزة والضفة الغربية وشرق القدس، تبنّت استراتيجية سمتها «الهجرة الطوعية»: خلق ظروف معيشية قاسية للضغط على السكان للرحيل، عبر هدم المنازل وتقليص فرص العمل.
بالتوازي أُنشئت «مكاتب هجرة» في مخيمات اللاجئين في غزة لتشجيع من فقدوا الأمل في العودة على المغادرة مقابل أموال وتسهيلات سفر. كما شجّعت إسرائيل الفلسطينيين على العمل في الخارج، وخصوصاً في دول الخليج. الثمن الذي دفعه المغادرون كان حرمانهم الدائم من العودة.
بعد 7 أكتوبر 2023 رأت إسرائيل فرصة جديدة لتنفيذ خطتها لتطهير غزة عرقيّاً — هذه المرة عبر إبادة وتهجير قسري. اعتقدت أن لديها التعاطف الدولي ورأس المال الدبلوماسي اللازمين لارتكاب مثل هذه الفظاعة، كما تدل تصريحات مسؤولين إسرائيليين من أمثال ايتامار بن غفير وبيزاليل سموتريتش. بل إنهم اقترحوا ما سمّوه «خطة الجنرال» لتفريغ شمال غزة بالكامل.
يتناسق المخطط الجديد لتهجير الفلسطينيين خارج غزة مع هذا السياق التاريخي، وما يميّزه هذه المرّة أن الفلسطينيين يدفعون ثمناً على تهجيرهم القسري، وتستغلّ حالة اليأس تلك لتغري متعاونين فلسطينيين يسعون إلى أرباح سهلة. هدف ذلك طمس الموارد المالية للشعب الفلسطيني وإحداث شروخ وانقسامات داخلية.
ومن السمات المركزية للمخططات السابقة والحالية حجب حق العودة عن الفلسطينيين. فلم يحصل أي من ركاب الطائرة على ختم خروج إسرائيلي في جوازاته، وهو ما أثار ارتباك السلطات الجنوب أفريقية أثناء إجراءات القبول. غياب أي سجل قانوني لمغادرة الأراضي الفلسطينية المحتلة يجعل هؤلاء الأشخاص مُصنَّفين تلقائياً كـ«مهاجرين غير شرعيين» ويفقدون أي سبيل للعودة.
من المهم توضيح لماذا تسمح إسرائيل بمثل هذه الرحلات بينما تعرقل خروج المرضى والجرحى والطلاب المقبولين في جامعات أجنبية. خروج هؤلاء المرضى والطلاب سيكون قانونياً ويضمن حق العودة — وهو الشيء الذي لا تريد إسرائيل الإقرار به.
ليس مفاجئاً أن يخلص بعض الفلسطينيين إلى الانجراف وراء خطط الرحلات هذه؛ فقد دفعتَ حربان من القتل والتدمير أهل غزة إلى مستويات من اليأس تفوق التصور. عددُ من سكان غزة على استعداد للركوب على متن تلك الطائرات، لكن إسرائيل لا تستطيع نقلنا جميعاً إلى جنوب أفريقيا.
عبر عقود من الاحتلال الصهيوني، صمد الفلسطينيون. تثبت صمودهم في وجه الحروب والحصارات وعمليات المداهمة والهدم وسلب الأرض والتبعية الاقتصادية أن الأرض الفلسطينية ليست مجرد مكان للسكن، بل رمز هوية وتاريخ لا يقبل الناس التخلي عنه.
في العامين الماضيين دمرت إسرائيل حياة ومنازل ما يقاربَ مليوني فلسطيني. ومع ذلك لم تقتل هذه الجرائم الروح الفلسطينية ولا العزيمة على التمسك بالأرض. الفلسطينيون لا يهاجرون هرباً؛ نحن باقون هنا.
الآراء المعبر عنها في هذا النص تعود للمؤلف ولا تعكس بالضرورة سياسات التحرير لدى الجزيرة.