لماذا باتت الحكومة الفرنسية مجدداً على شفا الانهيار؟

رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو دعا الأسبوع الماضي إلى إجراء تصويت حجب ثقة مبكر في البرلمان. وقد يؤدي الاقتراع المقرّر الأسبوع المقبل إلى انهيار حكومته الوسطية وإطلاق موجة جديدة من الاضطراب في ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي.

التصويت المقرر يوم الاثنين في الجمعية الوطنية (مقعد النواب) سيحمل بايرو محاولة للحصول على موافقة لنفسه ولحكومته، بالإضافة إلى تمرير ميزانيته المثيرة للجدل. لكنها تواجه معارضة واضحة: أحزاب المعارضة أعلنت أنها ستصوّت ضده، ما قد يقصر عمر حكومته بشكل فعّال.

الرئيس إمانويل ماكرون، الذي التزم بالبقاء في منصبه حتى 2027، قد يجد نفسه مضطراً قريباً لتعيين رئيس وزراء للمرة الثالثة خلال عام واحد، بعد حله العاجل للبرلمان في يونيو 2024.

ردود فعل الأسواق كانت سريعة بعد إعلان بايرو في 26 أغسطس؛ إذ ارتفعت عوائد سندات عشر سنوات إلى نحو 3.5% يوم الاثنين، متخطية حتى اليونان التي سجلت 3.36%.

ما هي مقترحات بايرو للميزانية؟
على المستوى الظاهري يبدو الاقتصاد الفرنسي في وضع أفضل نسبياً: نسبة الدين إلى الناتج المحلي أقل من إيطاليا، وتكلفة خدمة الدين إلى حدّ ما أدنى منها في المملكة المتحدة. لكن باريس تكافح للسيطرة على الإنفاق. في العام الماضي بلغ عجز الميزانية 5.8% من الناتج المحلي (168.6 مليار يورو)، مقابل الهدف الرسمي للاتحاد الأوروبي الذي لا يتجاوز 3%. المستثمرون يخشون من أن العجوزات المستمرة سترفع نسب الدين وتضعف التصنيف الائتماني للبلاد.

يهدف بايرو إلى خفض الاقتراض الحكومي إلى 4.6% من الناتج في 2026 وإلى 2.8% بحلول 2029، ما سيخفض بدوره نسبة الدين إلى الناتج إلى 117.2% في 2029 مقابل 125.3% إذا استمرت الحال دون تغيير. تتضمن خطته توفير 43.8 مليار يورو لعام 2026، منها نحو 80% عبر تخفيضات في الإنفاق مثل تقليص التوظيف في القطاع العام، تعليق ربط المعاشات بالتضخم وإلغاء يومي عطلة رسميين. كما تُبحث فرض ضرائب أعلى على أصحاب الدخول المرتفعة.

يقرأ  اختبار واقع العائد على الاستثمار مقاييس التعلم أم تأثير الأعمال؟

تقترح هذه الإجراءات ضمن سياق سياسات ماكرون السابقة، لا سيما قرار 2023 برفع سن التقاعد سنتين إلى 64 سنة، والذي أثار احتجاجات واسعة، إذ برر الرئيس حينها أن مدفوعات المعاشات تُثقل كاهل المالية العامة.

قبل التصويت حاولت القيادة الفرنسية مجدداً صياغة النقاش حول مستقبل البلاد. وقال بايرو: «المسألة ليست مصير رئيس الوزراء أو حتى مصير الحكومة. المسألة هي مصير فرنسا».

حذر وزير المالية إريك لومبارد في 26 أغسطس من أن عدم ضبط الدين قد يفتح الباب لتدخل صندوق النقد الدولي، وهو تحذير استثنائي نظراً لأن تدخل الصندوق عادة يقتصر على اقتصادات الأسواق الناشئة.

كيف كانت ردود الأحزاب على مغامرة بايرو؟
تحالف بايرو الوسطى وتحالفه مع المحافظين لا يملكان غالبية مطلقة في البرلمان، لذا سيحتاج إلى دعم أو على الأقل امتناع عن التصويت من خصوم يساريين ويمينيين لتمرير الميزانية. لكن أحزاب المعارضة، التي تسيطر على أكثر من 320 مقعداً من أصل 577 في الجمعية، أعلنت أنها ستصوّت ضده. وإذا التزمت بذلك فالبقاء الحكومي سيكون مستحيلاً.

نواب اليسار المتطرف من حركة «لا تُقهَر» قالوا إنهم يريدون «إسقاط الحكومة»، والاشتراكيون وعدوا برفض «ميزانية جائرة»، ووصفت الأمينة الوطنية للحزب الأخضر، مارين تونديليه، تصويت الثقة بأنه «استقالة بحكم الواقع». زعيم الحزب الاشتراكي أوليفييه فور أعلن أن حزبه سيصوّت ضد الحكومة، وقال إن بايرو «اختار المغامرة».

من جانبه قال جوردان بارديلّا، زعيم التجمع الوطني، إن حزبه اليميني المتطرف «لن يصوّت أبداً لصالح حكومة تقرر سياسات تُؤلم الشعب الفرنسي»، مضيفاً أن بايرو عملياً أعلن «نهاية حكومته».

كيف تفاعلّت الأسواق المالية؟
زادت حالة عدم اليقين السياسي تكلفة الاقتراض الحكومي (العائد) وخسرت أسهم بنوك رئيسية مثل بي إن بي باريبا وكريدي أجريكول وسوسيتيه جنرال بين 8% و10% الأسبوع الماضي. وفقاً لدافيدي أونيليا، محلل أوروبي في شركة الأبحاث TS Lombard، فإن الصراع السياسي المستمر وسّع الفجوة بين تكاليف اقتراض فرنسا وألمانيا على سندات عشر سنوات.

يقرأ  تحذير من ضابط استخبارات إسرائيلي سابق: إيران تتهيأ لـ«الجولة الثانية» وحزب الله على أهبة الاستعداد للحرب

منذ بداية العام اتسعت علاوة الاقتراض الفرنسي على الألماني بنحو نقطة مئوية تقريباً. عوائد السندات الفرنسية لأجل عشر سنوات باتت من بين الأعلى داخل الاتحاد الأوروبي، متجاوزة حديثاً اليونان والبرتغال. قال أونيليا لقناة الجزيرة: «الوضع السياسي يوسّع الفروقات. لسنا في أزمة دين كاملة بعد، لكن الوضع المالي أصبح أكثر إلحاحاً».

في ديسمبر خفّضت وكالة موديز التصنيف الائتماني لفرنسا من Aa2 إلى Aa3، في خطوة أضافت فرنسا إلى طيف التخفيضات الذي بدأته وكالات أخرى مثل ستاندرد آند بورز وفيتش منذ 2023.

ما الذي قد يحدث لاحقاً؟
يرجّح معظم المعلقين أن يخسر بايرو تصويت الثقة الأسبوع المقبل، ما سيضطر ماكرون لتعيين رئيس وزراء جديد مجدداً، لتعود القضية إلى نقطة الصفر بشأن الميزانية التي عجز عن حسمها منذ الانتخابات المبكرة العام الماضي. ذلك لن يغيّر المعادلات البرلمانية، وبما أن ماكرون من غير المرجح أن يعيّن رئيس وزراء يدعم سياسة مالية أرحب تكسب تأييد البرلمان، فإن الجمود السياسي يبدو وارداً.

بعض السياسيين، من بينهم مارين لوبان من التجمع الوطني، طالبوا ماكرون بالدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة على أمل إعادة ترتيب المشهد السياسي قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2027. لكن الرئيس الفرنسي سيظل متحفظاً تجاه هذا الخيار.

تُظهِر أحدث استطلاعات الرأي عدم تغيير جوهري في نوايا التصويت منذ انتخابات العام الماضي التي أسفرت عن تشكيل البرلمان الحالي. وفي المقابل تبدو فرص فوز حزب «التجمع الوطني» في الانتخابات الرئاسية المقبلة أقوى من أي وقت مضى: فقد تصدّر الحزب استطلاعات الرأي لتلك الانتخابات باستمرار خلال العامين الماضيين. وفي مايو أظهرت استطلاعاتان أن مرشح التجمع الوطني المرجّح، جوردن بارديللا، يحظى بنسبة 30٪ و31٪ على التوالي، بينما جاء المرشح التالي عند 21٪.

يقرأ  لماذا أطلقت باكستان قيادة صاروخية جديدة بعد الصدام مع الهند؟أخبار: توترات بين الهند وباكستان

وفي حال تحقق فوز للتجمع الوطني بالرئاسة، يرى أونيليا أن انتخابات إيطاليا عام 2022 تقدم نموذجاً مفيداً. «تحوّل حزب جورجا ميلوني الشعبوي اليميني بسرعة إلى اعتدال مالي عندما تولى السلطة»، كما أشار، في إشارة إلى رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني.

لن يُفاجئني أن نرى نتيجة مماثلة في فرنسا عام 2027 لو فاز التجمع الوطني. وحتى ذلك الحين، أتوقع أن تتخذ الأوضاع السياسية وضعية المماطلة والتمديد الطويل الأمد، أو ما يمكن تسميته «دفع الملفات إلى الرف لفترة طويلة».

أضف تعليق