اسلام آباد، باكستان — عندما هبط وزير الخارجية إسحاق دار في مطار دكا صباح 23 أغسطس، في يوم عاصف وسماء ملبدة بالغيوم، كانت تلك أول زيارة لمسؤول باكستاني رفيع المستوى إلى بنغلادش منذ 13 عاماً، بعد أن انفصلت الأخيرة عن باكستان قبل 54 عاماً.
بصفته نائب رئيس الوزراء أيضاً، تبنّى دار نبرة تفاؤلية واصفاً الزيارة بـ«التاريخية» وافتتاح «مرحلة جديدة لشراكتنا المتجددة». وأشار إلى «تقدّم كبير» تحقق خلال العام الماضي، مع اعترافه بوجود تزلزل في العلاقات سابقاً.
«علينا أن نعمل معاً لتهيئة مناخ يضمّ الشباب من كراتشي إلى تشيتاغونغ، ومن كويتا إلى راجشاهي، ومن بيشاور إلى سيلهيت، ومن لاهور إلى دكا، ليقِفوا صفاً واحداً لمواجهة التحديات وتحقيق أحلامهم المشتركة»، قال دار مستعرضاً مدناً من البلدين.
جاءت زيارته رمزاً لاختراق دبلوماسي بعد شهور من اتصالات عسكرية ودبلوماسية كثيفة بين إسلام آباد ودكا. العلاقات شهدت دفئاً سريعاً منذ الإطاحة برئيسة الوزراء السابقة شيخ هسينا في أغسطس 2024، إثر احتجاجات طلابية واسعة أثارت جدلاً حول قرب حكومتها من نيودلهي.
مع ذلك حذّر مسعود خالد، السفير الباكستاني السابق لدى الصين، من أن الماضي لا يزال يمثل عائقاً أمام بناء الثقة بين البلدين. وقال لقناة الجزيرة إن «الحكومة الجديدة في بنغلادش استجابت بإيجابية لمبادرات باكستان. بوضوح، كانت هناك حواجز مصطنعة أمام التقارب أزيلت الآن». وأضاف أنه ما يُطلب الآن «إطار للانخراط الأعمق يسمح بالحوار البناء لتبديد سوء الفهم».
التصاعد في الانخراط العسكري والدبلوماسي
في وقت التقى خلاله رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف الحائز على نوبل محمد يونس، زعيم الحكومة الانتقالية البنغالية، مرتين العام الماضي، لم يتوقع كثيرون تحسناً سريعاً ومتتابعاً في مستوى التبادل رفيع المستوى كما حصل لاحقاً.
في يناير زار الفريق أول إس إم كامل الحسن من الجيش البنغلاديشي إسلام آباد للقاء رئيس أركان الجيش الباكستاني، الجنرال عاصم منير. تبعه في فبراير رئيس أركان البحرية البنغلاديشية الأدميرال محمد نظام الحسن، وبعد شهرين زارت أمينة بالخ، وكيلة الخارجية الباكستانية، دكا. تأخرت رحلة دار لأغسطس بسبب المواجهة الجوية التي دامت أربعة أيام بين باكستان والهند في مايو، لكن في يوليو قام وزير الداخلية محسن نقفي بزيارة إلى دكا.
تزامن وصول دار إلى دكا مع زيارة الفريق الأول محمد فيض الرحمن، مدير الإمداد بالقوات المسلحة البنغلاديشية، إلى باكستان حيث أجرى مباحثات مع رئيس لجنة رؤساء الأركان المشتركة الباكستانية، الجنرال ساهر شمشاد ميرزا.
يرى دلوار حسين، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة دكا، أن جهود باكستان المتسارعة لتقوية الروابط استراتيجية بطبيعتها. وقال إن «باكستان حاولت تطبيع العلاقات حتى في ظل حكومة حسينة. الآن رأت فرصة لإحياء الروابط التي كانت قوية في حقبة ما بعد 1975»، في إشارة إلى الفترة التي تلَت اغتيال شيخ مجيب الرحمن، مؤسس بنغلادش ووالد حسينة.
عُرفت العلاقات بين إسلام آباد ودكا بالتحسّن خلال عهد ضياء الرحمن، القائد العسكري الذي تحوّل إلى رئيس وأدار بنغلادش من أواخر 1975 حتى اغتياله في 1981. وأضاف حسين أن «تغيير النظم خلق تقليدياً انقساماً ثنائياً بين الصداقة والعداء في علاقات بنغلادش مع الهند وباكستان. وقد تسعى باكستان أيضاً إلى استثمار التوترات الحالية بين بنغلادش والهند — وهي ممارسة دبلوماسية شائعة».
إرث حرب استقلال بنغلادش
لطالما نظرت إسلام آباد ونيودلهي إلى علاقاتهما مع دكا في سياق تنافسهما الإقليمي، دينامية تستمد جذورها من حرب استقلال بنغلادش عام 1971. عند تقسيم الهند البريطانية عام 1947 تأسست باكستان كدولة ذات أغلبية مسلمة وجناحان جغرافيان منفصلان. الجناح الغربي، الذي كان يضم نحو 34 مليون نسمة من أعراق متعددة، اعتُبر ذا هيمنة نسبية، فيما كان الجناح الشرقي — باكستان الشرقية التي أصبحت لاحقاً بنغلادش — أكثر اكتظاظاً، حيث بلغ عدد الناطقين باللغة البنغالية أكثر من 42 مليوناً، وكانت الهند تفصل بين شطري البلد.
مع تفاقم التظلمات في الشرق دعمت الهند كفاح البنغاليين من أجل التحرير. ارتكبت قوات الجيش الباكستاني والميليشيات المتحالفة معها فظاعات، قُتل خلالها مئات الآلاف، ويُقدّر أن حوالى 200 ألف امرأة تعرَّضن للاغتصاب. وبفضل الدعم العسكري الهندي قاد شيخ مجيب الرحمن وحزب الرابطة عوامي مسيرة الاستقلال وأصبح أول رئيس للدولة الوليدة.
تُعد حسينة، التي حكمت بنغلادش لمدة 16 عاماً قبل إزاحتها العام الماضي، شخصية يُنظر إليها على نطاق واسع باعتبارها مقربة من الهند، وقد أمضت الفترة التالية في نيودلهي.
قال أيِزاز تشاودري، وزير الخارجية الباكستاني السابق، إن الشكاوى المشتركة حيال «الهيمنة الإقليمية» للهند دفعت إسلام آباد ودكا إلى تقويم علاقاتهما وإصلاحها. وأضاف أن «البنغاليين عانوا من الهيمنة الهندية، ونحن في باكستان شعرنا بها في صراع مايو. كلا البلدين يدرك الآن ضرورة توازن القوى في جنوب آسيا».
في مايو خاضت الهند وباكستان صراعاً جوياً قصيراً ومكثفاً استمر أربعة أيام بعد مقتل 26 شخصاً في هجوم ببلدة بَهالغام في كشمير التي تديرها الهند، معظمهم من السياح. اتهمت نيودلهي باكستان بالوقوف وراء الهجوم، وهو ما تنفيه إسلام آباد.
وصف شهاب إنعام خان، المدير التنفيذي لمركز بنغلادش لشؤون الهندوـالمحيط، علاقة دكا بنيودلهي بأنها «فاترة» رغم قرب الهند الجغرافي والأهمية الاقتصادية، لكنه أشار إلى أن توجيهات السياسة الخارجية تتحدد غالباً بمعايير اقتصادية. وقال: «المشاعر المعادية للهند تُضخَّم أحياناً. تاريخياً تتجنّب بنغلادش النظر إلى علاقاتها، وخصوصاً مع باكستان، من منظور أمني أو عسكري بحت، مفضّلة التعاون الاقتصادي والإقليمي».
دور الصين المتنامي
تتعقّد الديناميات الإقليمية أيضاً بتنامي نفوذ الصين في جنوب آسيا. بكين، الحليف الوثيق لإسلام آباد، حافظت على علاقات قوية مع حسينة التي نجحت في موازنة صداقتها مع الهند والصين رغم التنافس بين القوتين الآسيويتين.
قال حسين من جامعة دكا إن الصين حافظت على حضور مهم في بنغلادش حتى بعد رحيل حسينة؛ ففي مارس زار محمد يونس بكين، وتبعته في أغسطس زيارة لمدة أسبوع لقائد الجيش البنغلاديشي، الجنرال واكر أوز زمان.
وأضاف أن «بنغلادش تدرس شراء 12 طائرة مقاتلة من طراز J-10C لتعزيز قدراتها الجوية»، في إشارة إلى طائرات صينية الصنع تمتلكها باكستان أيضاً، والتي استُخدمت خلال مواجهة مايو. تُعدّ الصين أيضاً أقرب شريك استراتيجي لباكستان، ومصدراً للقروض والاستثمارات الاقتصادية كما للمعدات العسكرية.
«هذه التطورات تقرّب دكا و اسلام اباد، محوِّلة العلاقات إلى شراكة قوية»، قال حسين.
مسؤولون باكستانيون وبنغلاديشيون عقدوا عدة اجتماعات خلال زيارة دار إلى دكا في أغسطس.
التجارة والسياسة في ظل سعي البلدين إلى شراكة
شملت زيارة دار التي دامت يومين إلى بنغلاديش عدداً مكثفاً من اللقاءات، بينها مباحثات مع يونس والمستشار للشؤون الخارجية توحيد حسين. كما التقى قادة من طيف سياسي واسع، من بينهم حزب بنغلاديش القومي (BNP)، وجماعة الجماعة الإسلامية (جماعة إسلامية)، وحزب الناخب الوطني الذي تقوده طلاب الجامعة (NCP)، الذي كان في طليعة الاحتجاجات التي أدت إلى إسقاط رئيسة الوزراء السابقة حسينة.
كانت تلك اللقاءات ذات أهمية خاصة مع استعداد بنغلاديش للانتخابات المقررة في أوائل 2026، كما قال عبد الباسط، السفير الباكستاني السابق لدى الهند. «مهما كانت العلاقات بين الهند وبنغلاديش، فإن باكستان وبنغلاديش ستمضيان قُدُماً»، أضاف. «لدينا قضايا من الماضي، لكن بالإمكان التعامل معها بمهارة ولا ينبغي أن تتحول إلى حواجز».
كما اقترح كل من السفير الباكستاني السابق لدى الصين خالد، والأكاديمي توحيد حسين من جامعة دكا، أن البلدين يمكن أن يستفيدا من تقارب العلاقات الاقتصادية.
بنغلادش، التي حققت معدل نمو يقارب 6% منذ 2021، هي إحدى أسرع اقتصادات جنوب آسيا نمواً. أما باكستان فتباطأت، وسجلت نمواً بنسبة 2.5% العام الماضي. حالياً التجارة الثنائية متواضعة وتميل لصالح باكستان، حيث بلغت صادرات باكستان إلى بنغلاديش 661 مليون دولار في 2024، مقابل 57 مليون دولار واردات من بنغلاديش.
إذا سعى البلدان إلى تنشيط العلاقات التجارية، فهما ـ كما قال حسين ـ يمكن أن يستفيدا بعضهما من الآخر سواء كمصدر للمواد الخام أو كسوق محتمل.
أوضح الأكاديمي أن بنغلاديش قد تستفيد من استيراد القطن ومنتجات النسيج والأرز والأسمنت والفواكه والمواد الغذائية المصنعة من باكستان. وعلى الجانب الآخر، يمكن لباكستان استيراد الجوت ومنتجاته وبيروكسيد الهيدروجين والمواد الكيميائية ومنتجات التبغ من بنغلاديش.
«يمتلك بنغلاديش وباكستان مجتمعين سكاناً يقارب عددهم 430 مليون نسمة»، أشار، «وهو أكثر من ضعف حجم غرب أوروبا».
الخلافات التاريخية مستمرة
أعمق خطوط الخلاف بين باكستان وبنغلاديش تعود إلى إرث حرب 1971. وتستمر دكا في المطالبة باعتذار رسمي عن الفظائع التي ارتكبت آنذاك.
ثم هناك النزاع حول وضع أكثر من 200 ألف مسلم يتحدثون الأردية في بنغلاديش. بعد التقسيم عام 1947، انتقلت هذه الجالية إلى باكستان الشرقية في ترحالها من بيهار في الهند الحالية. كانت باكستان الشرقية — أي بنغلاديش اليوم — أقرب جغرافياً إلى بيهار من باكستان الغربية. لكن بنغلاديش، التي تأسست على أساس القومية البنغالية، منحت تلك الجالية حقوقاً محدودة، وتطالب باكستان بقبولهم، وهو ما تتهرب منه إسلام آباد.
كما تطالب بنغلاديش بتقسيم أصول الدولة ما قبل 1971 وبنقل المساعدات التي وعدت بها باكستان الغربية لباكستان الشرقية في 1970 بعد الإعصار المدمر الذي أودى بحياة ما يُقدَّر بنحو 300 ألف شخص. يُستشهد برد الفعل البطيء والغير كافٍ من الحكومة المتمركزة في باكستان الغربية بوصفه دافعاً رئيسياً للحرب التي أدت إلى استقلال بنغلاديش.
مع ذلك، يرى تشاودري، الأمين العام السابق للخارجية الباكستانية، أن الشعور الشعبي في البلدين يؤيد المصالحة. «شعب باكستان حزين أيضاً إزاء أحداث 1971 بقدر حزن شعب بنغلاديش. أعتقد أن هذا الألم مشترك، والناس في كلا البلدين الآن يرغبون في المضي قدماً»، قال.
غير أن توحيد حسين من جامعة دكا قال إنه رغم الدعم القوي من القوى السياسية الحالية لتقوية العلاقات بين بنغلاديش وباكستان، فإن القضايا المتعلقة بحرب 1971 تظل عائقاً أمام تحسّن العلاقات. «من المهم أن نتذكّر أن إزاحة حسينة من السلطة لم تغيّر جذرياً مواقف الناس في بنغلاديش تجاه حرب التحرير وتوقعاتهم من باكستان في تصحيح الماضي»، قال.
ومع ذلك أضاف أن دكا لا تريد البقاء أسيرة الماضي. «الدبلوماسية عملية ديناميكية. يمكن للبلدين أن يمضيا قدماً في التعاون في المجالات الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية، مع الاستمرار في المضي بعملية الشفاء والمصالحة»، اختتم.