الحكومة البريطانية تدرس تعديل قواعد الهجرة مستلهمةً سياسة الدنمرك المثيرة للجدل، في ظل ضغوط متزايدة من أحزاب اليمين المتطرف التي وجّهت انتقادات لائتلاف حزب العمال بسبب تزايد أعداد اللاجئين والمهاجرين الذين يعبرون إلى البلاد. وزيرة الداخلية شَبانة محمود أرسلت الشهر الماضي فريقاً من المسؤولين لدراسة آليات نظام الهجرة واللجوء الدنماركي، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع كأشد النظم في أوروبا؛ وتدرس هذه البعثة مراجعة قواعد لم شمل الأسر وحدّ بقاء اللاجىئين في أطر مؤقتة.
ما الذي تضمنته سياسات الدنمرك؟
خلال العقود الأخيرة تصدرت الدنمرك المشهد الأوروبي بسياسات متشدّدة متتالية تجاه الهجرة والاندماج، مع تصريحات قيادات سياسية هدفت إلى تقليص أعداد طالبي اللجوء حتى «الصفر» في بعض التصريحات. من أبرز الإجراءات:
– تشديد شروط لم شمل الأسرة ورفع العتبات بالمقارنة مع دول مجاورة؛ فالسكان المقيمون في أحياء تُعتبر «مجتمعات موازية»—حيث أكثر من 50% من السكان من أصول غير غربية—يُحرمون من تأهيل أفراد أسرهم للقدوم.
– اشتراط بلوغ الطرفين 24 عاماً على الأقل، وعدم حصول الشريك المقيم في الدنمارك على إعانات لثلاث سنوات، واجتياز اختبار في اللغة الدنماركية.
– منح الإقامة الدائمة مرتبط بفترة أربع إلى ثماني سنوات بمعايير صارمة، بما في ذلك التوظيف بدوام كامل في كثير من الحالات (الإقامة الدائمة متاحة عادة بعد ثماني سنوات وفق شروط مشدّدة).
– اتخاذ حكومية لقرارات أحادية بشأن الدول الآمنة؛ فقد قررت الحكومة في 2022 عدم تجديد تصاريح لأكثر من 1200 سوري بحجة أن دمشق باتت «آمنة» للعودة.
– تشريع 2021 الذي يتيح إمكانية معالجة طلبات اللجوء خارج أوروبا عبر اتفاقات مع دول ثالثة مثل رواندا، رغم أن تنفيذ هذا الطرح واجه صعوبات واحتجاجات قانونية وسياسية.
يرى محللون، من بينهم أستاذ العلوم السياسية كريستيان ألبريكت لارسن، أن تراكم هذه السياسات جعلها محور توافق سياسي في الدنمرك، ما قلّل من الحاجة النسبية لوجود أحزاب متطرفة مناهضة للهجرة على الساحة السياسية، لأن البلاد باتت تُعد أقل جاذبية مقارنة بجيرانها مثل ألمانيا والسويد والنرويج.
كيف تختلف هذه السياسات عن النظام البريطاني الحالي؟
النظام البريطاني يتيح للأفراد طلب اللجوء إذا أثبتوا أنهم غير آمنين في بلدانهم، وتمنح حالة اللاجئ وفق اتفاقية جنيف 1951 حماية تبدأ عادة بإقامة مؤقتة مدتها خمس سنوات تتيح التقدم بطلب إقامة دائمة بعدها. معظم المهاجرين واللاجئين يمكنهم التقدم للحصول على حق الإقامة الدائمة (ILR) بعد خمس سنوات، ثم الترشّح للجنسية بعد عام إضافي، مع اشتراطات تشمل كفاءة اللغة الإنجليزية واجتياز اختبار «الحياة في المملكة المتحدة». شروط رعاية الشريك تتطلب حالياً حدّ دخل أدنى يبلغ 29,000 جنيه إسترليني سنوياً (مع نية لرفعه بعد مراجعة)، ولم تفرض المملكة المتحدة حدّ عمري أعلى من 18 عاماً سابقاً، لكن قبل سبتمبر كان يُستثنى الأزواج والشركاء والأطفال القاصرون دون 18 من بعض اختبارات اللغة والدخل، وقد جرى تعليق ذلك أثناء صياغة قواعد جديدة.
المتقدّمون بطلبات اللجوء مُستبعدون من شبكات الرفاهية العامة ويتلقون مخصصات أسبوعية ضئيلة أثناء النظر في طلباتهم، لكن عند منح الحماية يحصلون على نفس الحقوق والمزايا التي يتمتع بها المواطنون البريطانيون. وقد أقرّت حكومة المحافظين السابقة تشريعاً يسمح بطرد أفراد إلى رواندا، إلا أن تطبيقه أوقفته تحديات قانونية متكررة.
لماذا يعدّل حزب العمال قواعد الهجرة؟
حكومة كيير ستارمر تواجه ضغوطاً شعبية ومعارضة سياسية بسبب ارتفاع أعداد العبور البحري بالقوارب الصغيرة إلى سواحل المملكة المتحدة. في مايو قدم ستارمر مسودة إصلاحية واصفاً إياها بالسعي إلى نظام «متحكم فيه، انتقائي وعادل». من المقترحات الأساسية مضاعفة الفترة المطلوبة للحصول على الإقامة الدائمة إلى عشر سنوات وتشديد متطلبات اللغة الإنجليزية.
حزب العمال، الذي ارتبط تاريخياً بنهج أكثر انفتاحاً للهجرة، وجد نفسه في موقف دفاعي مع تزايد شعبية حزب الإصلاح (Reform UK) الذي ركز حملته على ملف الهجرة. بين يناير ويوليو من هذا العام عبر أكثر من 25,000 شخص القناة الإنجليزية إلى المملكة المتحدة، واستغل المعارضون هذه الأرقام للضغط السياسي؛ نايجل فراج، زعيم حزب إصلاح المملكة المتحدة، اتهم العمال باللين في مواجهة ملف الهجرة. فرج قد تعهّد بإلغاء وضع الإقامة الدائمة غير المحدود — وهو اقتراح وصفه كير ستارمر بـ«عنصري» و«غير أخلاقي».
حكومات بريطانية متعاقبة فشلت في خفض صافي الهجرة، وهو الفرق بين القادمين إلى المملكة المتحدة والمغادرين منها. بلغ صافي الهجرة مستوى قياسياً وصل إلى 906,000 في يونيو 2023، وكان 728,000 في العام السابق. صرح الجهاز الحكومي لستارمر أن القواعد الجديدة للهجرة تشكّل «فصْلًا تامًا» عن نظام يعتمد بصورة مفرطة على عمال أجانب منخفضي الأجور.
أظهرت دراسة أجرتها شركة إبسوس الشهر الماضي أن الهجرة لا تزال تُرى على أنها أكبر مشكلة تواجه البلاد، إذ ذكرها 51% من البريطانيين باعتبارها مصدر قلق، متجاوزة الاقتصاد (35%) والرعاية الصحية (26%). ومع ذلك، وجد استطلاع YouGov أن 26% فقط اعتبروا أن الهجرة واللجوء من بين ثلاث أهم قضايا تواجه مجتمعهم المحلي.
وفي تقرير أصدرته مجموعة «الأفضل لبريطانيا» وصف باحثون قلق الجمهور بشأن الهجرة بأنه «ذعر مصطنع». وقال توم بروفاتّو، مدير السياسات والبحوث في المجموعة، إن البيانات تُظهر بوضوح أن التعرض الإعلامي والخطاب السياسي يُغذّيان مشاعر معادية للهجرة في المملكة المتحدة، ما يؤدي إلى تآكل الدعم للحكومة من الجناحين اليميني واليساري على حد سواء.
هل ثمة معارضة داخل حزب العمال؟
قادة الجناح اليساري في حزب العمال دانوا ما وصفوه باتخاذات الحكومة البريطانية المقتبسة من النموذج الدنماركي باعتبارها توجهات يمينية متطرفة وعنصرية. دعا نواب حزب العمال وزيرة الداخلية محمود إلى التخفيف من خططها لتنفيذ إصلاح بنكهة دنماركية لنظام الهجرة واللجوء.
قالت نادية ويتوم، نائبة حزب العمال عن نوتنغهام إيست، لبرنامج توداي في هيئة الإذاعة البريطانية إنها ترى أن هذه السياسات «طريق مسدود — من الناحية الأخلاقية والسياسية والانتخابية». وذكرت: «أعتقد أن هذه سياسات يمينية متطرفة. لا أظن أن أحداً يريد حكومة عمالية تبتعد إلى هذا الضفاف». وأضافت أن بعض سياسات الدنمارك، لا سيما المتعلقة بـ«المجتمعات الموازية»، «عنصرية بلا شك».
قال كليڤ لويس، النائب عن نورويتش ساوث: «لقد اتخذ الديمقراطيون الاجتماعيون في الدنمارك نهجًا صارمًا أصفه بالقاسي تجاه الهجرة، وتبنوا كثيراً من نقاط الخطاب التي نُسميها خطاب اليمين المتطرف». وأكد أنه على الرغم من ضرورة استعادة أصوات ناخبين ميالين للإصلاح، «لا يمكن فعل ذلك على حساب خسارة الأصوات التقدمية».
في المقابل، نواب عن دوائر “الجدار الأحمر” التقليدية، حيث يملك حزب ريفورم UK قاعدة دعم، أبدوا تقبلاً لخطط محمود. وتفاقمت الانقسامات بعدما طالبت لوسي باول، التي انتُخبت مؤخرًا كنائب لرئيس حزب العمال، ستارمر بتلطيف موقفه بشأن الهجرة، مؤكدة أن «الانقسام والكراهية في تزايد، والسخط وفقدان الثقة منتشران. لدينا فرصة واحدة كبيرة لنظهر أن السياسة التقدمية المعتدلة يمكنها بالفعل تغيير حياة الناس للأفضل».
كيف تختلف قوانين الهجرة عبر أوروبا؟
تختلف الدول الأوروبية تفاوتًا كبيرًا في كيفية إدارتها لقضايا الهجرة؛ فبعضها وجهات رئيسية لأعداد مطلقة كبيرة من المهاجرين واللاجئين، بينما تبنّت دول أخرى إجراءات تشدّدية أو سياسات اندماجية قوية. في 2023 سُجلت أكبر الأعداد المطلقة من المهاجرين الداخلين إلى دول الاتحاد الأوروبي في ألمانيا وإسبانيا، كل منهما بأكثر من 1.2 مليون، تليهما إيطاليا وفرنسا، وفق أحدث تقرير للاتحاد عن الهجرة واللجوء. هذه الدول الأربع مثّلت أكثر من نصف إجمالي الهجرة من خارج الاتحاد إلى دوله.
تعمل دول الاتحاد في إطار قواعد الهجرة واللجوء الأوروبية، وقواعد شنغن حيث تنطبق، وملزمة بالتزامات دولية مثل اتفاقية اللاجئين للأمم المتحدة، لكن كل دولة تفسّر هذه الالتزامات عبر تشريعات وطنية خاصة بها. في السنوات الأخيرة انقلب الرأي العام عموماً ضد الهجرة وسط أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة. كشفت استطلاعات YouGov في بريطانيا والدنمارك وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والسويد أن المستجيبين يعتقدون أن معدلات الهجرة خلال العقد الماضي كانت مرتفعة جداً؛ ففي بريطانيا قال 70% من المستطلعين إن معدلات الهجرة كانت عالية للغاية.
من جهة أخرى، سهّلت دول مثل هنغاريا وبولندا والنمسا، بالإضافة إلى الدنمارك، سياسات هجرة مبنية على تشييد سياجات حدودية وقواعد صارمة لم شمل العائلات، إلى جانب تسريع إجراءات الترحيل وتقييد الوصول إلى المزايا الاجتماعية. أشار وزراء نمساويون وألمان إلى أن النموذج الدنماركي شكل مصدر إلهام لسياساتهم المحلية.
كما جرّبت عدة دول أوروبية نسخاً من سياسات تحويل عمليات اللجوء إلى دول ثالثة، مثل إيطاليا مع ألبانيا، والدنمارك مع رواندا، واليونان مع تركيا، وإسبانيا مع المغرب، ومالطا مع ليبيا وتونس. وانتقدت منظمات حقوقية الاتحاد الأوروبي لتركيزه على السيطرة على الحدود وسياساته التي تنقل طالبي اللجوء إلى دول ثالثة.