لماذا سمحت الولايات المتحدة لدوديك بالإفلات من العقاب وتسليم قلب أوروبا المريض إلى روسيا؟ — آراء

في انقلاب جيوسياسي مدهش، وفي 29 أكتوبر رفعت الولايات المتحدة فجأة العقوبات عن زعيم الصرب البوسني ومنكر الإبادة الجماعية ميلوراد دوديك — حليف معروف للكرملين لطالما قوض سيادة البوسنة والهرسك. القرار، الذي يخالف سياسه أمريكية طويلة، تزامن بشكل لافت مع بداية تعامل مباشر بين روسيا وكيان الصرب في البوسنة، جمهورية صربسكا.

الروس، الذين طالما اعتبروا بلغراد الممثل الأوحد لجميع الصرب في المنطقة، قللوا مؤخراً من مكانة صربيا من خلال اعترافهم بدوديك كممثل شرعي للصرب البوسنيين، مما هزّ مكانة العاصمة الصربية في منظومة النفوذ الإقليمي.

الانعطاف غير المبرر

أزالت الولايات المتحدة العقوبات عن دوديك وشبكته بشكل مفاجئ ودون تفسير مقنع. لسنوات استهدفته واشنطن بتهم محاولة زعزعة استقرار البوسنة، وإنكار الإبادة ودفعه باتجاه الانفصال. إزالته من لائحة العقوبات تبدو بمثابة ضوء أخضر لمنظومة إنكار الإبادة وتمهيد واضح لتفكك البوسنة.

دوديك يُعد من أوضح حلفاء الكرملين في أوروبا، يحتفل علناً بروابطه مع موسكو ويعمل لصالح المصالح الروسية. ومع ذلك تستمر واشنطن في فرض عقوبات قوية على آخرين بسبب روابط أضعف مع روسيا، ما يبرز تناقضاً مزعجاً يضرب مصداقية نظام العقوبات الأمريكي الأوسع.

التفسير القائل بأن لجهود دوديك في اللوبيينغ داخل الولايات المتحدة دوراً محورياً في هذا التحوّل يبدو ضعيفاً وغير مُقنع. تُقدّر بعض المصادر أن جهود اللوبي لديه تضاعفت لتصل إلى مرتين أو ثلاث مرات من مبلغ 30 مليون دولار المؤكد لعام 2017، لكن حتى ذلك يبقى ضئيلاً مقارنة بالأموال الطائلة التي تنفقها دول ومجموعات أخرى دون أن تحقق مثل هذه النتيجة الدبلوماسية المبهرة.

نظرية أخرى تربط التغيير بمصادر البوسنة المعدنية، ولا سيما الليثيوم، بعد أن عرض دوديك في 21 مايو 2025 موارد كيان الصرب البوسني على واشنطن مقابل الاعتراف بسيادة جمهورية صربسكا. هذه الفرضية تبقى ناقصة منطقياً: لو كانت أولويات واشنطن الليثيوم فعلًا، فالإبقاء على العقوبات كان سيمنحها تحكماً أكثر مباشرة في الموارد دون الحاجة لمنح دوديك أي مكاسب. قصور هذا التفسير يوحي بوجود حسابات جيوسياسية أعمق غير معلنة، ما يثير تساؤلات مقلقة عن الثمن الحقيقي لهذا التراجع الأمريكي المفاجئ.

يقرأ  زيلينسكي: مساعدوه سيلتقون فريق ترامب في نيويورك يوم الجمعة أخبار حرب روسيا وأوكرانيا

موسكو تهيمن على صربيا

لوقت طويل كانت صربيا تتجه تدريجياً بعيداً عن موسكو باتجاه الغرب. في 29 أغسطس 2024 أعلن الرئيس ألكسندر فوتشيتش صفقة بقيمة 3 مليارات دولار مع فرنسا لشراء 12 مقاتلة رافال، ما انعكس كتحول أمني نحو التحالفات الغربية. في مؤتمر صحفي مشترك وصف الرئيس الفرنسي الاتفاق بـ«تاريخي» ومدح «الشجاعة الاستراتيجية» لصربيا، مؤكداً مستقبلها الأوروبي. لم يغب ذلك عن انتباه موسكو، التي اتهمت في مايو 2025 بلغراد بأنها طعنتها في الظهر لبيعها أسلحة لأوكرانيا، وفي يوليو أدانت الكرملين احتمال انضمام صربيا لعقوبات غربية ضد روسيا.

في اليوم الذي سبقت رفع العقوبات عن دوديك، لم يكن دوديك يسعى إلى ود واشنطن بل كان في مينسك يحتضن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. بلقاء دوديك قبل يوم واحد من رفع العقوبات، أعلنت موسكو استراتيجية بالبلقان تقصي صربيا عن مركزية الدور الصربي التقليدي.

في سبتمبر وصف وزير الخارجية الروسي دوديك بأنه «الرئيس المنتخب شرعياً» لكيان صربسكا، أما الآن فموقع وزارة الخارجية الروسية يصفه بوضوح «قائد الصرب البوسنيين في البوسنة والهرسك». هذا التحوّل في التسمية يخدم عدة أغراض استراتيجية ويعلن بوضوح تغييراً جيوسياسياً.

أولاً، يقوض سيادة البوسنة عبر منح دوديك صفة وطنية تتجاوز الطابع الإقليمي لسلطته. ثانياً، يتحدى طموح صربيا المتمثل بمفهوم Srpski svet (العالم الصربي) الذي يسعى لأن تكون بلغراد الراعي المركزي لجميع الصرب، ويعوّضه بمطالبة روسيا بأن تكون الحكم الأعلى في الشؤون الصربية. يقابل هذا المفهوم الروسي نظریة Ruski mir (العالم الروسي)، وكلاهما يسعى لتبرير توسيع النفوذ السياسي والتدخل في الدول المجاورة بذريعة حماية الأقليات العرقية والثقافية.

أقوى إشارة لهذا التحوّل جاءت من كلام دوديك نفسه عندما تجاهل فوتشيتش صراحة قائلاً إن لبلغراد لا كلمة في شؤون جمهورية صربسكا. ردّ فوتشيتش مستنكراً ذلك: «رأيت الليلة الماضية في بانيا لوكا أنهم يقولون إن لا أحد من بلغراد سيعطيهم أوامر». لسنوات صورت صربيا نفسها كحارس أبوي لكل الصرب، وكانت جمهورية صربسكا جزءاً من المدار السياسي البلغادي؛ تصريح دوديك كسر هذا النسق وأعلن أن الكيان الغالب فيه الصرب بات يخضع لراعي مختلف.

يقرأ  بولندا تتهم موظفًا سابقًا في مكتب السجل المدني بتزويد جواسيس روس بهويات مزوّرة

ورقة موسكو هذه فرّقت دوديك وفوتشيتش علنياً وأضعفت نفوذ صربيا، مؤكدة أن روسيا ستتعامل مباشرة مع الانفصاليين البوسنيين متجاوزة الحكومة الصربية. بالنسبة لفوتشيتش، الذي يحاول موازنة علاقاته مع أوروبا وروسيا، هذه النتيجة هي الأسوأ: فهي تثبت أن نفوذه لم يعد مطلوباً وأن موسكو تعمل الآن عبر بانيا لوكا بدل بلغراد، ما يقلّص أهمية صربيا إقليمياً.

لعبة القوة الروسية: ضم قلب أوروبا المريض

قرار واشنطن رفع العقوبات سمح عملياً لموسكو بضم جمهورية صربسكا إلى فضائها النفوذي. عصر النفوذ غير المباشر انتهى؛ الكيان البوسني بات يُدار الآن بشكل متزايد من بوابة الكرملين، مع تغييرات جوهرية في ميزان القوى في أوروبا.

البصمة العسكرية الروسية في البلقان تتسع أيضاً. بينما تحتفظ روسيا بوجود غير رسمي في صربيا، بات من المرجح الآن أن تسعى إلى إنشاء قاعدة أيضاً في بانيا لوكا، العاصمة الفعلية للكيان الصربي البوسني.

البوسنة، التي تقع في قلب أوروبا وتشبه شكلها القلب، كانت أمام الاتحاد الأوروبي فرصة استمرت ثلاثين عاماً لشفاء هذا القلب الأوروبي المريض. فشل الاتحاد لأن جوهره مصاب بعوائق متجذرة: الإسلاموفوبيا والروسوفوبيا. ثمن هذا الكراهية صار واضحاً اليوم: نصف قلب أوروبا — نصف البوسنة — أصبح عملياً منطقة روسية جديدة، قد يكون منها إطلاق الصواريخ أكثر كفاءة مما هو ممكن من كالينينغراد.

لوحة الشطرنج العالمية: تفاهم ضمني بين واشنطن وموسكو؟

رفع العقوبات عن دوديك، تلاه على الفور تقويمه الاستراتيجي مع لافروف، يمكن فهمه ليس كإخفاق أمريكي بحت بل كتحرك محسوب على لوحة الشطرنج العالمية. خطوة لافروف كانت بمهارة: منح دوديك سلطة علنية على حساب بلغراد، كرسالة واضحة لصربيا أن دورها التاريخي كراعٍ أول للصرب البوسنيين انتهى. بهذا الاصطفاف الجديد، تؤكد موسكو أنها تمتلك مفتاح السلطة في جمهورية صربسكا، مذكّرةً صربيا بمن يتحكم في ولاءات «الأشقاء» المفترضين.

يقرأ  هانجاما أميريتحوّل ذكريات الهجرة إلى بورتريهات نسيجية نابضة بالحياة— كولوسال

هذه اللعبة تستغل المعضلة الأساسية لصربيا، المنقسمة بين طموحاتها الاقتصادية والسياسية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وروابطها التاريخية والثقافية والدينية العميقة مع روسيا. تحرك لافروف يشد الخناق الروسي، ويضع بلغراد في موقف أكثر تبعية.

وهنا تنشأ النظرية الأكثر إثارة للقلق: أن قبول واشنطن بهذا التحول هو جزء من تسوية ضمنية بين قوتين عظيمتين. توقيت القرار وتناقضه يوحيان بأنه ليس تراجعاً عبثياً بل صفقة استراتيجية؛ قد تكون واشنطن تنازلت عن نفوذها في البلقان مقابل تنازل روسي في ساحة أخرى — ربما حول أوكرانيا، أو الشرق الأوسط، أو ملف آخر. هذا السيناريو ينسجم مع نمط ساخر من التاريخ: القوى الكبرى غالباً ما تتخلى عن التزامات محلية لخدمة صفقات سرية أكبر.

السؤال المعلق والتداعيات

الرفع المفاجئ للعقوبات من قبل واشنطن، تلاه تحول دوديك نحو موسكو، يترك سؤالاً موحشاً بلا إجابة: ما الذي حصلت عليه واشنطن مقابل أن تهدي عملياً نصف البوسنة إلى فضاء التأثير الروسي؟ هذه الصفقة الغامضة تُضحّي بعقود من سياسة بالكان المنطقية لقاء ثمن جيوسياسي غير مُعلن، وتُقوّض مصداقية الولايات المتحدة واتفاق دايتون الهش.

التداعيات واضحة: الانفصاليون يكتسبون جرأة، أوروبا تصبح أكثر هشاشة، وإشارة خطيرة تُرسل مفادها أن القيم الديمقراطية المكتسبة بصعوبة باتت سلعة في لعبة قوى كبرى جديدة، تاركة الحلفاء مخذولين والخصوم منتصرين.

الأراء المعبر عنها هنا هي رأي كاتب المقال ولا تعكس بالضرورة سياسة التحرير في الجزيرة.

أضف تعليق