في الأشهر الأخيرة رسخ في النقاش العام الأوروبي والأميركي حول أوكرانيا مفهوم جديد كخط أساس: ضمانات «شبيهة بالمادة الخامسة». اقترحت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني في مارس آلية مستوحاة من المادة الخامسة من ميثاق الناتو، التي تنص على تفعيل عمل جماعي في حال التعرض لهجوم على أحد الأعضاء. ثم دفعت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أغسطس باتجاه ضمان أميركي «مشابه للمادة الخامسة» خارج إطار الناتو. وفي سبتمبر اختتم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا التحول بدعوة 26 شريكاً أوروبياً إلى باريس للتعهد بقوة «طمأنة» بعد الحرب.
قد تبدو هذه المقترحات مطمئنة للوهلة الأولى، لكنها في الواقع لا توفر الطمأنينة المطلوبة. في عالم نواجه فيه غارات ليلية بالطائرات المسيّرة، وحواجز ملتبسة في البحر، وضغوطاً دائمة على بنى تحتية حيوية، فإن تكرار نصوص الناتو دون آلياته سيترك أوكرانيا عرضة للخطر وأوروبا غير آمنة.
تحولت التحركات الروسية داخل أراضٍ حليفة للنادر إلى روتين. في 10 سبتمبر عبرت العشرات من الطائرات المسيّرة المصنعة في روسيا الأجواء البولندية خلال هجوم أوسع على أوكرانيا؛ قامت طائرات الناتو بإسقاط ما شكّل تهديداً، في حين فعّلت بولندا المادة الرابعة من ميثاق الناتو، التي تسمح بالتشاور في حال وجود تهديد.
في الأسابيع التالية أغلقت الدنمارك مؤقتاً عدة مطارات بعد رصد طائرات مسيّرة متكررة. وبعد أيام صعد طاقم فرنسي على متن ناقلة مشتبه بأنها جزء من «أسطول ظل» مرتبط بروسيا ومتورطة في إحداث اضطرابات عبر الطائرات المسيّرة.
أبلغت ألمانيا أيضاً عن طيران منسق لطائرات مسيّرة فوق مصفاة، وحوض سفن، ومشفى جامعي، وقناة كييل. وبينما عبر بحر البلطيق استمرّت أضرار لعدة أشهر في الكابلات تحت الماء وروابط الطاقة، ما زاد المخاوف.
كل حادث من هذه الحوادث خطير بحد ذاته، ومع ذلك لم يتجاوز أي منها بوضوح العتبة القانونية التي كانت ستؤدي إلى تفعيل دفاع جماعي بموجب المادة الخامسة.
وهنا تكمن المشكلة الجوهرية للضامانات «على نمط الناتو». فالمادة الخامسة قوية لأنها تصوغ مبدأ: اعتداء على أحد الأعضاء اعتداء على الجميع، لكن قوتها تعتمد على عملية سياسية تبدأ بالتشاور وتترك لكل حليف حرية القرار بشأن كيفية الرد. وقد صيغت للمواجهة التقليدية والمرئية: أعمدة جنود على الحدود، سفن تطلق نيراناً عبر خط فاصل، مقاتلات تهجم على أراضٍ واضحة.
الواقع اليوم مختلف. إطلاق طائرات مسيّرة من خارج أراضي أوكرانيا، وتوغلات ليلية فوق بنى تحتية حليفة، وقطع كابلات من قبل سفن — كلها أعمال تهدف لأن تبقى تحت العتبات الرسمية. تكرار نص المادة الخامسة خارج القيادة المتكاملة للناتو، من دون وجود تواجد حليف دائم أو قواعد متفقاً عليها مسبقاً لأوكرانيا، سيكون أبطأ وأضعف من النص الأصلي.
عند التفكير في آلية أمنية لكييف، على الحلفاء أن يعترفوا بأنها لم تعد مجرد مستهلكة للأمن بل أصبحت مصدّرة له. بعد حادثة بولندا بدأ الحلفاء يطلبون خبرات أوكرانية في مواجهة الطائرات المسيّرة. نشر متخصصون أوكرانيون إلى الدنمارك لمشاركة تكتيكات دمج المستشعرات والتشويش واستخدام لاعتراضات منخفضة التكلفة.
يقول قادة الناتو الآن علناً إن على أوروبا أن تتعلم كيف تهزم الطائرات المسيّرة الرخيصة من دون إطلاق صواريخ تكلف مئات الآلاف من اليوروهات. هذا تحول مهم: أوكرانيا لم تعد تتلقى الحماية فحسب، بل تساهم في بنائها.
على حلفاء أوكرانيا أن يتذكروا أيضاً ما حدث في 1994. بموجب مذكرة بودابست تخلّت كييف عن ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم مقابل «تعهدات أمنية» سياسية من دول عدة، بينها روسيا والولايات المتحدة. تلك التعهدات لم تكن ملزمة قانونياً.
في 2014 استولت روسيا على القرم وأشعلت الحرب في دونباس بينما نفَت وجود قواتها، مستخدمة جنوداً بلا شارات للحفاظ على غموض الموقف. حتى لو كانت أوكرانيا عضواً في الناتو حينها، لكان ذلك الغموض أثار شكوكاً حول مدى انطباق المادة الخامسة. وفي 2022 شنت روسيا غزوًا علنياً.
من الواضح أن الوعود غير القابلة للتنفيذ والنقاشات حول العتبات لا توقف عدواناً مصمماً. ولهذا نحتاج إلى ضمانات تُفعل تلقائياً، لا بيانات تُستهلَك في مهلة التعاطي.
ما يصلح عملياً هو حزمة أكثر صلابة من المادة الخامسة في المسائل التي تهمّ ضد المعتدي تحت العتبة: الوقت، الآلية التلقائية، التواجد، الاستخبارات، والإنتاج.
أولاً: يجب وجود محفزات تلقائية. آلية «إن — إذا» مُصادق عليها قانونياً ينبغي أن تُفَعَّل خلال ساعات عند تحقق معايير واضحة: طائرات أو صواريخ منشأها دولة تدخل المجال الجوي الأوكراني من الخارج؛ توغلات جماعية للطائرات المسيّرة في المناطق الحدودية؛ هجمات إلكترونية مدمّرة أو تخريب يستهدف بنى تحتية محددة وحيوية. يضمّ الحزمة الأولية خطوات عسكرية وعقوبات قاسية. يكون دور التشاور تعديل الاستجابة لا تقرير ما إذا كانت ستُتخذ من الأساس.
ثانياً: يجب إقامة درع جوي وبحري مشترك يعامل سماء أوكرانيا والبحار المجاورة كساحة تشغيلية واحدة. على الحلفاء المحافظة على تغطية رادارية جوية دائمة ودوريات بحرية؛ ودمج المستشعرات من الارتفاع المنخفض إلى العالي؛ وتفويض قواعد لإسقاط الطائرات المسيّرة على طول ممرات متفق عليها؛ ودمج الحرب الإلكترونية وأدوات الطاقة الموجهة والموجات الراديوية والمعترضات منخفضة التكلفة مع صواريخ أرض‑جو التقليدية. المعيار هنا اقتصادي: على أوروبا أن تجعل غارات الطائرات المسيّرة مكلفة على موسكو، لا عليها هي.
ثالثاً: يجب أن يكون هناك تواجد مرئي ولوجستيات جاهزة. قبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار يحتاج الحلفاء لبناء لوجستيات متقدمة: ذخائر وقطع غيار ومراكز صيانة في بولندا ورومانيا وجسر جوي دائم إلى أوكرانيا. بعد وقف متفق عليه يمكنهم تدوير وحدات متعددة الجنسيات، وفرق دفاع جوية، وفرق دوريات بحرية، ومهندسين عبر موانئ ومطارات أوكرانية. الهدف ليس إقامة قواعد دائمة بل ضمان أن أي هجوم متجدد يستدعي ردّ عدة عواصم فوراً.
رابعاً: حاجة إلى ميثاق استخباراتي. على الحلفاء الانتقال من مشاركة مؤقتة إلى ترتيب مؤسسي يدمج الأقمار الصناعية والإشارات والمصادر المفتوحة ومستشعرات ساحة المعركة في منتجات مشتركة شبه آنيّة. الفعالية في النسبة تعلّق بسرعة النسب: الحق في الدفاع يعتمد على ما يمكنك إثباته، والردع يعتمد على معرفة الخصم بأنك قادر على إثبات ذلك بسرعة.
خامساً: اتفاق إنتاجي. تمويل متعدد السنوات يجب أن يؤسس للتشارك في الإنتاج داخل أوكرانيا لطائرات مسيّرة ومكوّنات دفاع جوي وقذائف مدفعية، إلى جانب مصانع أوروبية وأميركية تصنع الأنظمة عالية المستوى التي لا تزال أوكرانيا وأوروبا تفتقران إليها. على الحلفاء الالتزام بشراء أنظمة أوكرانية على نطاق واسع وربط الضمانات بالإنتاج المتعاقد عليه لا بالبيانات الصحفية. مخازن فارغة تعني وعوداً فارغة — وهذه معضلة لا تحتمل التردد.
هذه الإجراءات لن تنسخ حرف المادة الخامسة، لكنها ستواجه تهديداً مختلفاً بأدوات قادرة على مجابهته. التجربة الأوروبية الأخيرة — في سماء بولندا، وفي أحواض السفن الألمانية، وفي مطارات الدنمارك، وعلى بحر البلطيق — تُظهر كيف يمكن لخصم أن يمارس ضغوطاً مستمرة من دون استدعاء تعريفات الهجوم المسلح التقليدية.
إذا اكتفت أوكرانيا بلغة «على نمط الناتو» فسترث ذات الثغرات خارج التحالف. أما إذا أمّن شركاؤها ردوداً تلقائية، وصورة جوية مشتركة، وتواجداً مرئياً، واستخبارات فورية، وقاعدة صناعية مواكبة، فسيبنون ضماناً أقوى: ضماناً يعمل في العالم كما هو الآن، لا كما كان سابقاً.
الآراء الواردة في هذا المقال تعكس رأي كاتبه ولا تمثّل بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.