منذ ثمانية أشهر، لكان من بدت عليك فكرة أن عودة تيار “اجعل أمريكا عظيمة مجدداً” ستعيد شبح الكونفدرالية إلى الساحة النهار جهاراً ضرباً من لياقة الهلع. كانت تبدو حينها ادعاءات أن من يسعون لاستعادة أمجاد أميركا سيحاولون، مثلما فعلت حركة MAGA الأولى ومن سبقهم من المستردّين، إعادة إحياء نظام استعباد أسوأ من مبالغة نقاشات من يُعتبرون من “المتحسّسين من العنصرية” أو المحسوبين على التيار الـ«ووك».
قبل ثمانية أشهر كان من الصعب تصديق أن حاملي راية المعركة الكونفدرالية في حشد اقتحم الكابيتول، أولئك الذين يتغنّون بدور الزوجة التقليدية ويُؤيّدون تجريد النساء من حقوقهن، ويعملون على أن تكرّر الكتب المدرسية رواية ملاكي العبيد بأن المحكومين كانوا «مسرورين» باسترقاقهم، لهم عناصر جديّة تطمح لإعادة الحياة إلى المزارع والحقبة النوائية للعبودية.
لكن اليوم، حتى من اتهمونا بالهيستيريا الـ«ووك»، لا بد أن تقع أمامهم أمور غريبة. من المحيّر أن نصعد بأن تمثال «المامّي» السوداء المألوف —ذات الرقة التي كانت تُقدّم الولاء لسيدها المهيب، ذلك الذي يسلخ إنسانيّتها بينما يذهب إلى الحرب تاركاً إياها — والذي أُزيل من مقبرة أرلينغتون الوطنية عام 2019 قد قرّر وزير الدفاع إعادته. ومن الملامح الغريبة أن يقترح ترامب بديلاً لـPBS، وأن تنتج PragerU رسومًا متحرّكة لصمويل كولومبوس بعيون براقة — رجلٌ معروف بوحشيّات مثل قطع أيدي أطفال الشعوب الأصلية لعدم جمعهم ما يكفي من الذهب — ليعلّم الأطفال ألا يهرعوا إلى حكم سلبي على استرقاق البشر.
لم يكن غضّ الأنظار عن أولئك الحاملين لراية الكونفدرالية أمرًا مبالَغًا حين افترضنا احتمال رغبتهم في استعادة الولايات الكونفدرالية أو الثأر عن أسلافهم الفكريين، ملاك العبيد الذين وجدوا أنفسهم تحت احتلال قوات الاتحاد بعد الحرب الأهلية، عبر نشر قوات فيدرالية لاحتلال واشنطن. ولم يكن من العبث توقع أن يهلّلوا الآن لانتشار دوريات الشرطة الفيدرالية في الأحياء السوداء انتقاماً من الانتفاضات التي أعقبت مقتل جورج فلويد — صدى لدوريات العبيد التي كانت تجوب الفناءات بعد ثورات العبيد.
منذ انتصارات النضال ضد الفصل العنصري القانوني في ستينيات القرن الماضي، ظل جرح عام ممنوعًا على السياسيين؛ صفّقوا أو صاحوا علانيةً بكلمات عنصريّة. لذا، إذا أرادت الكونفدرالية النجاح اليوم فعليها أن تُعاد قطعة قطعة، عبر إعادة إنتاج رموزها بلبوس جديد. لم تعد زيا الكو كلوكس كلان مقبولاً تمامًا في الكونغرس، فعلى سياسيّي MAGA أن يصوغوا خطابهم بلغة مرمّزة بدل الاقتباس المباشر من أمثال سيناتوريس سابقين معلنين صريحين؛ فيختزلون أفكارهم إلى صياغات مثل «لو استوردنا العالم الثالث نصبح عالماً ثالثاً» أو «لن يبقَ عندنا بلد».
اعاد ادخال الكونفدرالية إلى الساحة العامة يتمّ اليوم عبر حصان طروادة زجاجي اسمه «الدولة المناهضة للّووك»: هنا إعادة نصب تمثال المامّي الذي «أزالته قطيعة الوعي»، هناك تقويض قانون حقوق الاقتراع، هنا اقتراح إطلاق سراح ديريك تشوفين، وهناك برامج تقليصية تُسمّى مضادّة للتنوّع والشمول — حتى نصل بعد ثمانية أشهر إلى نقطة يصبح فيها تحويل الأحياء السوداء إلى سجون مفتوحة أمرًا «معقولًا». قبل سنوات ضحك البعض على دعوات مثل تلك التي أطلقها متطرّف أبيض طالب بإرسال الجيش إلى الأحياء السوداء؛ واليوم يطلب عملاء فيدراليون من أفراد سود جالسين على شرفاتهم إبراز هوياتهم، ويعتقلونهم ويذلّونهم علنًا بتُهم تافهة كالتدخين. قائمة رغبات تفوّق البياض تحققت في وضح النهار بثمن بسيط: وضع قمصانهم البيضاء تحت التخزين المؤقت.
هذا هو شكل الدولة المناهضة للّووك: المزارع الكبرى — أميركا التفوّق الأبيض تحت احتلال أشد وضوحاً لليمين المتطرف العنصري. لا فرق حقيقيًا بين حملة إنهاء «الواوك» والرغبة في أن ترى السكّان السود يتألّمون، مهما قُدِّمت مكافحة «الواوك» كمرتكز وسطيّ معقول بين تطرفين — من جهة الخوذ البيضاء ومن جهة الجثث المعلّقة على الأشجار.
أسرع من تسلّم السلطة، شرع مناهضو «الواوك» في إحياء أضرحة وذكريات لتاجرّي الأطفال السود ولبائعي الأجساد السوداء. سارعوا أيضًا إلى تقليص الحريات السوداء والانسحاب من إجراءات خفض إطلاق النار الشرطي، ولو كانت ادعاءات التغيير عرضية وشكلية. أن تكون «واوك» يعني تاريخًا أن تكون واعيًا بمعاداة السود ومقاومًا لهيمنة حكم البياض — ولهذا السبب يُبغَض هذا الوعي في كل مكان. القادة الاستعماريون الذين صافحوا بعضهم ليتفقوا على أن مناهضة الـ«واوك» هي النموذج الجديد، من السحرة المحافظين السابقين إلى الحكّام التقدميين، كانوا جميعًا يقصدون شيئًا واحدًا: السخرية من المقاومة وتفكيكها.
أولئك الذين ينددون بالـ«واوك» لا يختلفون، من حيث الجوهر، عن أولئك الذين وقفوا ضد التحرير. اسبابها واضحة. ما كان الغاء العبودية، في نظر مؤيدي الكونفدرالية، سوى تجاوزٍ حكوميّ مفرط وصيحةٌ من دعوات الاستيقاظ الاجتماعي؟ وما كان دمج المطاعم والمدارس، في نظر العنصريين المناهضين للتكامل، إلا شركاتٌ مستيقِظة وسياساتُ تنوّع ومساواة خرجت عن صوابها؟ ما سعى إليه مُجدِّدو القرن التاسع عشر، وما راجَت له عصابات الكو كلوكس كلان في القرن العشرين، وما يطلبه تيّار الماغا في القرن الحادي والعشرين، كلّه يسعى إلى إعادة عمود الجلد.
أيّ رغبةٍ هذه في رؤية المهاجرين مكبَّلين بالأصفاد مُجبرين على الركوع وابتلاع الطعام كما تأكل الكلاب، غير تجسيدٍ لرغبةٍ قديمة في مشاهدة المعاقبة التي كانت تُطبَّق على العبيد؟ ألَيْستُ الخلاياُ المزدحمة عمداً مذكّرةً بحجر شَدّة سفن العبيد؟ أليس مشهدُ دوريات الهجرة التي تقتحم المدينة باحثةً عن بشرٍ بنِّيّين “غير قانونيين” مشهدَ صائِدي العبيد أواخر زمن المزارع، الخارجين للقبض على الهاربين المختبئين عن ربّ المزرعة؟ أليست إرسالُ لاجئينٍ من ضحايا النيولوجيا الاستعمارية الأميركية—المُلصَق بهم اسم “المهاجرين غير الشرعيين”—ليُعذّبوا في سجونٍ بالسلفادور كوسيلة ردع، بمثل بيع السيدات والرجال المتمردين إلى مزارع الجنوب من حيث لا عودة؟ أليست الفَصْلُ العائليُّ جوهرَ سوقِ عبيد ذلك الزمان؟ اقتلاع الأمهات من أطفالهنّ، والآباء من زوجاتهم بلا سبيلٍ لإعادة التواصل، هل ليس هذا بالتمام المشهد ذاته لعرباتٍ تجرُّها الخيول تحملُ أحبّاء سوداً إلى التعذيب في أماكنٍ بعيدة لا يُسمَع عنهم بعدها؟
لأنّ الأمر حقيقة. هاؤلاء الذين ابتسموا أمام صور الشنق ذات قرنٍ مضى سيأخذون اليوم سيلفي أمام «أليغيتور ألكاتراز». والذين تجمّعوا ليشيروا ويضحكوا أمام عائلةٍ سوداء متّهمة معلّقةً على شجرة سيُزحمون اليوم أقسامَ التعليقات في وسائل التواصل كلّما نُشِرت صورة لإطلاق نارٍ من رجال الشرطة، ليقولوا إنّ الرجل الأسود استحقَّ ذلك. العنصريون لا يُغذّون على التعصب بإقناعٍ طائفيٍ جذّاب اليوم أكثر مما كانوا يفعلون في قرونٍ سابقة. العنصريون يحبّون الظلم؛ يغتسلون في ألمنا. يهشّون النصب التذكارية لأطفال غزة. يشترون تويتر ويفتحون بوّابات الميمات التي تستعيد عرضَ الوقع بالوجه الأسود. لا يوجد ارتفاعٌ حقيقيّ في جريمة العاصمة أكثر مما وُجدت في قافلة المهاجرين الغزيرة. نشرُ القوّات الفيدرالية في «مدينة الشوكولاتة» ليس لأمنٍ حقيقيّ، بل لإشباع الشهوة على مشاهدة معاناة المُستعمَر. لا حاجة لهم لإرهابنا ومضايقتنا واحتجازنا. يفعلون ذلك لأنّهم يستطيعون. مجتمع أصحاب العبيد لا يتغيّر، مهما قفز أمام ميكروفونات الصحافة من سياسيين ليبراليين يصرخون: «هذا ليس ما نحن عليه». لكنّه هو.
ومع ذلك، ينبغي ملاحظة أن هذا الجيل لا ينتظر خلاصاً من قوّات الاتحاد. السياسيون الأملسون الشعر الذين يَعِدون بالحرية حين نعلّق تحريرنا على عربة حملاتهم في 2028 بدأوا يقلقون من قلّة تفاعل الشباب. هذا الجيل من المُستعمَرِين لا يكتفي بالنوم على الحصير خارِج الأبواب على أمل أن يكون السيد القادم هو من يخلّصنا. هم ينزلون عن دوّامة الحزبين ويقطعون استثماراتهم العاطفية عن أمريكا، كونها كانت كونفدرالية أم موحَّدة.
تنكسر كلّ حلقةٍ من سلسلةِ التقييد الأيديولوجي المسماة بالوطنيّة مع كلّ دعوةٍ تنادي بإنكار المحرقة في فلسطين. مع كلّ استسلامٍ لمؤسسةٍ ثقافية، ومع كلّ فديةٍ تدفعها مؤسسةٌ تعليمية لصالح الحكومة الفاشية، يتفتّت ذلك الشعورُ المُعلَّم بالتزامٍ تجاه مجتمعٍ عنصري. ومع كلّ إساءة لمسافرٍ تُذكّرهم بعائلاتهم أكثر ممّا تُذكّرهم بزميلٍ يدعم حشودَ الشنق، تُرخى حلقةٌ من قيد الساق التي تربطهم بحائطِ الأمل في الفداء الاستيطاني. إنّهم يتحوّلون، بأعدادٍ كبيرة، بعيداً عن المستعمراتِ الإبادةية وعن انحراف الغرب نحو نزعات نازيةٍ جديدة، ورؤيتهم لأنفسهم كجزءٍ من المُستعمَرِين العالمِيّين الذين ينهضون بالفعل تتعاظم. أولئك الذين كنتم تطلقون عليهم أسماءَ الكلاب يرفضون الآن أن يلعقوا وعدَ نهاية الاضطهاد العنصري من يدكم. يتخيّلون ويأملون ويبنُون مستقبلاً ما بعد حكم البياض. لقد استيقظ الأسد النائم.