نصف فرحٍ ونصف حزنٍ: عودة احتفالات عيد الميلاد في بيت لحم وسط تداعيات الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني

بيت لحم (الضفة الغربية المحتلة)

امتلأت ساحة المهد والأزقة الضيقة المحيطة بها بصوت الطبول وآلات النحاس بينما تجمّعت فرق الكشافة في زيهم الأبيض النظيف ومسيرتهم تملأ المكان. غنّوا ترانيم الميلاد وعزفوا ألحاناً فلسطينية تقليدية، مزجوا فيها احتفالات العيد بهويتهم الوطنية.

وسط احتفالات ليلة عيد الميلاد، بدا المشهد محمّلاً بقدر من الحنين والألم — إذ تُعد هذه المرة الأولى منذ عامين التي تعود فيها مثل هذه الاحتفالات إلى المدينة التي يُعتقد أنها مسقط رأس السيد المسيح.

حضر الاحتفالات البطريرك اللاتيني للقدس بيرباتيستا بيتسابالا، أرفع مسؤول كاثوليكي في فلسطين والمنطقة. قال: «هنا في بيت لحم، ومن هنا أوجّه رسالة الميلاد ليس إلى بيت لحم فحسب بل إلى العالم بأسره، لقد لاحظت حضور النور». وأضاف: «وهذا ليس نور الشمس فقط، انه نور وجوهكم الجميلة». وتابع: «قررنا أن نكون نوراً، ونور بيت لحم هو نور العالم. اليوم نأتيكم بالسلام والصلاة والقلوب».

توقفت الاحتفالات في بيت لحم عامي 2023 و2024 تضامناً مع الفلسطينيين في غزة، حيث أسفرت الحرب الإسرائيلية عن مقتل أكثر من 70 ألف شخص، بحسب تقارير. كما تكثفت الاعتداءات والاقتحامات في بيت لحم والضفة الغربية المحتلة، التي قتل فيها أكثر من ألف فلسطيني خلال العامين الماضيين.

لم تسلم المسيحية الفلسطينية من هجمات الجيش والمستوطنين؛ ففي يوليو قُتل ثلاثة أشخاص إثر قصف الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في غزة، وشهد الشهر نفسه هجمات على بلدات ذات أغلبية مسيحية في الضفة الغربية.

أدّى وقف إطلاق نار بدأ في أكتوبر إلى تهدئة جزئية في غزة، رغم استمرار الانتهاكات والهجمات الإسرائيلية، التي أودت بمئات القتلى، فيما واصلت القوات الإسرائيلية اقتحاماتها في الضفة الغربية.

ومع أن أجواء العيد خففت من وقع الكآبة في ساحة المهد، لم يكن واقع الحرب غائباً: استمرت الاقتحامات ونقاط التفتيش، وقُبض على ثلاثة شبان من مخيمَي الدهيشة وعايدة على بُعد ساعات قليلة من بدء الاحتفالات.

يقرأ  «مخزٍ»: الأمم المتحدة: مقتل 383 من العاملين الإنسانيين العام الماضي وما يقرب من نصفهم في غزة — أخبار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

عاد بيتسابالا مؤخراً من زيارة إلى غزة، واستند في حديثه إلى معايشته لمعاناة الناس هناك: «في غزة… شهدت دماراً كاملاً»، قال. «لكن وسط دمار غزة شعرت بشغف للحياة. وفيما بدا كعدم وجود شيء، أوجد الناس أسباباً للفرح والاحتفال، ذكرونا بأن بإمكاننا العودة والبناء من جديد رغم الدمار البشري». وأضاف: «سنستطيع الاحتفال في غزة وبيت لحم. سنعود لنُعيد البناء من جديد».

رحلة شاقة

حضر الاحتفالات نحو 1500 شخص — من فلسطينيين وزوار أجانب — لتُستعاد بذلك إحدى أكبر رموز الحياة المسيحية في المنطقة، على الرغم من تناقص نسبة المسيحيين الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية بفعل الاحتلال وعوامل أخرى.

من القدس الشرقية المحتلة وصل جورج زلوم ليكون واحداً من المسيحيين الفلسطينيين الذين قطعوا الطريق إلى بيت لحم. قال لقناة الجزيرة إنه يستمتع بالجو لكنه يشعر بأسف عميق: «جو اليوم نصفه فرح ونصفه حزن، لأن لدينا إخوة ما زالوا يموتون في غزة نتيجة القصف والقتل المتواصل. نأمل أن تنتهي الحرب، وأن يتوقف القتل، ويعم السلام في الأرض المقدسة، وأن تستمر هذه الأعياد».

سافر آخرون من مدن وقرى الضفة الغربية إلى بيت لحم، لكن رحلاتهم كشفت الصعوبات التي تفرضها قيود الاحتلال. انتظر كثيرون لساعات عند الحواجز المحيطة بالمدينة، رغم أن المسافة الفعلية ليست بعيدة.

قال حسام زريقات، الذي جاء إلى ساحة المهد من بيرزيت قرب رام الله: «لا شك أن أجواء الفرح والمحبة والسلام عادت إلينا، لكن الطريق إلى بيت لحم كان صعباً. قضينا وقتاً طويلاً عند حاجز عسكري إسرائيلي، لكن الحمد لله وصلنا».

وروى غسان رزق الله من قرية جفنا القريبة من رام الله معاناة مماثلة: «واجهنا حاجزاً عسكرياً انتظرنا عنده ساعة ونصف على الأقل قبل أن نتمكن من دخول المدينه. الرحلة كانت شاقة جداً». ومع وصوله غمره الفرح وهو يشاهد فرق الكشافة ويستمع للموسيقى التي أعادت إلى الذاكرة ماضي بلادهم الجميل وتراثهم، مؤكداً أن «لنا الحق في أن نعيش بأمان وسلام».

يقرأ  الأمير ويليام يعلن عن الفائزين بجائزة إيرثشوت 2025 خلال حفل أقيم في ريو دي جانيرو

سياحة حيوية

رأى عمدة بيت لحم ماهر الكنواطي أن احتفالات ساحة المهد تحمل رسالة تتجاوز حدود المدينة. قال للجزيرة: «رسالة بيت لحم اليوم هي رسالة صمود وأمل لأهل المدينة ولغزة ولكل فلسطين. نرسل اليوم رسالة إلى العالم أن الشعب الفلسطيني يحب الحياة والسلام، وأنه لا يمكن اقتلاعه من أرضه ومن جذوره لأنه صاحب الحق».

وأشار إلى بوادر انتعاش اقتصادي في المدينة، التي تُعد كنيسة المهد فيها موقع حج مسيحي رئيسي، بعد انهيار شبه كامل في قطاع السياحة. وأضاف: «جميع فنادق بيت لحم أعادت فتح أبوابها لاستقبال الزوار المحليين والأجانب بعد نحو عامين من الإغلاق شبه الكامل. إن شاء الله بدأت عجلة السياحة تدور من جديد».

تعرض اقتصاد بيت لحم، المعتمد بشكل كبير على السياحة، لضرر بالغ نتيجة تلك السنوات من الانكماش والاضطراب. أظهرت بيانات وزارة السياحة الفلسطينية أن معدلات إشغال الفنادق منذ مطلع العام لم تتجاوز 25 بالمئة. وتوافد فلسطينيون من مختلف أنحاء الضفة الغربية ومن داخل إسرائيل إلى بيت لحم لحضور احتفالات الميلاد في ميدان المهد.

قال إلياس العرجا، رئيس جمعية الفنادق الفلسطينية، إن فنادق بيت لحم تكبّدت خسائر بقيمة نحو 300 مليون دولار هذا العام، لكن استئناف احتفالات عيد الميلاد شكّل دفعة اقتصادية كبيرة. «معدلات الإشغال خلال اليومين الماضيين ارتفعت إلى نحو 80 بالمئة، مع حضور يقارب 8 آلاف زائر — منهم نحو 6 آلاف من المواطنين الفلسطينيين داخل إسرائيل، وحوالي 2 ألف من جنسيات أوروبية وأمريكية»، بحسب العرجا.

وشاهد بعض الزوار فعاليات الاحتفال في ساحة المهد، حيث طغى على الأجواء شعور بالفرح بعد سنوات عصيبة. وقال دوين جيفرسون، القادم من ولاية نورث كارولاينا بالولايات المتحدة: «من الجميل أن نرى عودة هذه الاحتفالات. إنها تجربة إيجابية تفتح الباب أمام احتمال عودة هذه المنطقة إلى حياة طبيعية. أنا سعيد جدًا بتواجدي هنا».

يقرأ  نيسان تستعرض مساعدها الرقمي المدمَج «أوتو دي جي» المحسّن

وأضاف سائح إيطالي يُدعى جان تشارلز أنّها زيارته الأولى إلى بيت لحم، وأنه سرر برؤية هذه الفرحة بعد عامين من الحرب. «أرى هذا العيد احتفالًا لكل فلسطيني، وليس للمسيحين فقط»، قال، ولاحظ أيضاً وجود مسلمون يشاركون في المناسبة، ما يعكس بعداً مجتمعياً مهماً لمستقبل هذا الشعب. «للأسف لاحظت قلة أعداد السياح… لكن بصراحة الأجواء هادئة للغاية، والجميع يرحّب بك قائلاً: “أهلاً بكم في فلسطين”. إنه يوم جميل وذكرى ميلاد جميلة».

يجهّز جاك جقمان قطعًا تقليدية داخل متجره قرب كنيسة المهد في ساحة المهد لاستقبال الزوار والسياح، بينما خيّم تفاؤل حذر على أصحاب المحلات حول الساحة.

المزيد من الزوار مطلوب

بالنسبة لتجار ومطاعم محيط ميدان المهد، كانت الحالة اليوم بمثابة بصيص أمل متردد. قال جورج إيجها، صاحب مطعم سانت جورج: «كان النشاط اليوم جيدًا واعتمد أساسًا على فلسطينيين من داخل إسرائيل، لكنه لا يرقى إلى مستوى ما كان عليه قبل اندلاع الحرب». وأضاف: «أغلقت عملي تمامًا عند اندلاع الحرب ولم أعد فتح المطعم إلا قبل أسبوعين. الخسائر التي تكبدناها لا تُحصى. نأمل أن يعود النشاط مع مطلع العام».

وأبدى صاحب محل التذكارات جاك جقمان ملاحظة مماثلة: «النشاط الذي شهدناه اليوم ليس كافيًا… الزوار الذين حضروا إلى بيت لحم كانوا في الغالب من العمال الأجانب داخل إسرائيل من الفلبين والهند ورومانيا، أو من أبناء شعبنا المقيمين في إسرائيل»، وأضاف أن ذلك مع ذلك مهم لأنه يظهر واقع المدينة واستعدادها لاستقبال الحجاج والسياح مجددًا.

وقال جقمان إنه ظل في متجره لعشرة أيام دون أن يشعر بوجود مجموعات سياحية حقيقية من شأنها أن تحسن الوضع الاقتصادي، وختم متمنيًا رفع الحصار الذي حول بيت لحم إلى سجن كبير، مع الأمل في احياء النشاط السياحي والاقتصادي في القريب العاجل.

أضف تعليق