ثمة حواريان ينسجمان بعد وقف إطلاق النار الأخير الذي أحدث هدنة هشّة في مجزرة غزة: واحد هادئ وعملي وإقليمي؛ وآخر صاخب وأخلاقي وعالمي. الأول يدور خلف الأبواب المغلقة بين دبلوماسيين وجهاز استخبارات ونخبة سياسية عربية مطعّمة بخبرة المنطقة. الثاني يملأ منصات التواصل، يغذّيه الغضب والتضامن — الرد الإنساني الوحيد اللائق على الرعب. الأول يعيد رسم خريطة النفوذ، بينما يتحدث الثاني عن خيانة وفقدان الثقة.
إذا أصغى المرء جيداً، يتبلور من العواصم الإقليمية استنتاج لافت: الحرب في غزة انتهت — ليس فقط عسكرياً، بل كرؤيا سياسية. في عيون من يديرون شؤون الدولة، يشكّل الاتفاق نقطة لا عودة عنها. ما يجري ليس مجرد تهدئة؛ بل هو إعادة ترتيب. كارثة غزة أحدثت إعادة معايرة ستمتد أبعد من حدودها، تتغلغل داخل إسرائيل، تعيد تشكيل السياسة الفلسطينية، وتعيد تعريف معنى الاستقرار الإقليمي لسنوات مقبلة.
في هذا الحساب الجديد، يواجه حماس — وبالمنطق نفسه مشروع الإسلام السياسي ككل ومعظم الفاعلين غير الرسميين — استبعاداً من السياسة الرسمية. طبقات الحكم الإقليمية، المتجمعة الآن حول مفهوم الاستقرار والتجارة والحداثة المحكومة، تنظر إلى هذه الحركات كأشلاء من الماضي وعوامل فوضى. هناك إجماع متنامٍ على أن لا بد من احتواء هذه الفواعل أو القضاء عليها.
نفس منطق السيطرة سيمتد إلى الضفة الغربية — لأن النظام الإقليمي الناشئ يقدّر القابلية للحكم فوق كل اعتبار. الخطة العربية تقضي بأن تتدخل دول عربية، بدعم من قوى إسلامية ودولية مختارة، لوضع الضفة تحت إشراف مؤقت — إدارياً ومالياً وأمنياً — تمهيداً لمرحلة انتقال مُدارة.
ستُمنح السلطة الفلسطينية ما قد يكون فرصتها الأخيرة للإصلاح — عملية سيشرف عليها فريق من التقنيين المستقلين مُكلّف بإعادة هيكلة المؤسسات، إدارة غزة تحضيراً لانتخابات. وإذا أبدت السلطة مقاومة أمام هذه الخطوات، فستواجه عزلة وإفلاساً.
سيعتبر كثيرون هذه الخطة استيعاباً لا إصلاحاً — فمن يقود هذا المسار لا يحركه مثال ديمقراطي. هدفهم تأمين الشارع الفلسطيني عبر قيادة قادرة على احتواء السخط والتفاوض بشروط متوقعة. الفلسطينيون ليس لديهم ملوك أو سلالات؛ وفي غياب مثل هذه الهياكل يظل الصندوق الانتخابي الأداة الوحيدة للحفاظ على الشرعية الداخلية، حتى لو ولدت من حسابات خارجية.
منظمة التحرير، التي أُفرغت من جوهرها طويلاً، قد تتحوّل قريباً إلى مظلة رمزية لا أكثر، بيت احتفالي لأحزاب “التحرير”. في النظام الإقليمي الناشئ، قد تُنظر إليها على أنها تركيبة تجاوزها الزمن السياسي، وصار نضالها محصوراً في البيانات والنداءات والسعي وراء تمويل المانحين. من يريد البقاء ذي صلة سياسياً سيضطر لإعادة تشكيل نفسه — مع الأخذ بالاعتبار النظام الجديد — كأحزاب مدنية تخلو من هويتها الثورية.
هذه مخططات يرى كثيرون في دوائر السياسسة الآن أنها حتمية. قلة هم من يعلنونها علناً، لكنها مقبولة بصمت وبثقة متزايدة من عمان إلى القاهرة ومن الرياض إلى عواصم غربية رئيسية.
هنا يكمن الانقسام. بينما يتكلم الداخلون بلغة الأنظمة والإشراف و”النظام”، يرفض كثيرون حول العالم ما يرونه حسابات براغماتية وسياسات استيعاب: إعادة ترتيب للسلطة خالية من العدالة والمساءلة والرؤية الصادقة. يرى الناشطون وحركات التضامن في هذه المناورات خيانة لا إعادة ترتيب. هم لا يثقون بإسرائيل أو الولايات المتحدة، ولا يثقون بصراعات النوايا لدى حكومات إقليمية تبدو متآلفة مع المال والسلطة. ولهؤلاء حق في الشك.
ومع ذلك، بين السذاجة والتشاؤم، يجب أن يكون هناك مجال للواقعية — ليست واقعية الاستسلام، بل وعيٌ متبصّر. ما يحدث الآن ليس تحقيقاً للعدالة بحد ذاته، بل بزوغ بنية جديدة ستحدد ما الذي يمكن للعدالة أن تَحقِّقه أو لا تَحقِّقه. تجاهل هذا الواقع يعني التنازل عن الفاعلية مرة أخرى.
زلزال غزة غيّر قواعد اللعبة. القوة الإسرائيلية، وإن كانت وحشية، لم تعد مطلقة. السياسة الإقليمية تتحول. يُكتب نظام جديد — ومن يريد أن يبقى فاعلاً عليه تعلم مفرداته وإتقانه، وإلا فسيصير هامشياً، ذاكراً فقط لرفضه التكيّف أمام عالم يعيد تشكيل نفسه أمام عينيه.
في رأيي، الواقعان — البراغماتي والأخلاقي — يتكاملان الآن جنباً إلى جنب، تياراتهما تتقاطع وتتصادم وتتقدم بكل تناقضاتها. وبالتوازي مع هذا الانقسام يسير محور ثانٍ متقاطع: من جهة، المشروع التوسعي الإسرائيلي الذي لا يتوقف ويهدد كل إطار ناشئ للسلام أو العدالة أو النظام؛ ومن جهة أخرى، حسابات القوى الإقليمية العملية — كل منها بدرجات متفاوتة مرتبطة ومؤثرة في الولايات المتحدة.
على المدى القريب، تصادم هذه التيارات لا بد أن يولّد اضطراباً. لكن على المدى البعيد، ومع توجه واشنطن حتماً للانشغال بالصين وروسيا، ومع تحول المزاج الغربي بشكل متزايد ضد الإفلات من العقاب الإسرائيلي والمنطق الاستعماري الذي يدعمه، يصعب تصوّر ألا ينتصر التيار الإقليمي البراغماتي في نهاية المطاف — وربما أبكر مما يتوقع البعض.
في المقابل، ستظل حركات التضامن تتحدث بلغة القيم — الحقوق والذاكرة والنظام الأخلاقي الذي يصرّ على العدالة في زمن الترخيص. صوتهم لا غنى عنه: هو الضمير الذي يذكّر بما تنساه السياسة كثيراً. قوس التاريخ لن ينحني للعدالة لوحده؛ بل يجب سحبه نحوها من قبل من يرفضون النسيان ومن لا يبادلون القيم بالراحة.
بالنسبة للفلسطينيين في الشتات وللجمهور الدولي المتحمس بالتضامن، المهمة المقبلة واضحة: مقاومة الإغراء بلفّ التوترات بلفتات مهدئة ستتزايد حتماً — اعترافات وقرارات ووعود إعادة إعمار. تقبلوا هذه الخطوات بكرم، لكن لا تظنّوها تحوّلاً جذرياً.
لا بد أن يبقى الدفع نحو تحولات ملموسة على الأرض وملاحقة المساءلة بلا هوادة. لا بد أن يقف مصمّمون أمام قانون، يومًا، صناع ومنفّذي ما يرقى إلى إبادة في غزة — ليس طلباً للثأر، بل لاستعادة معنى العدالة نفسها. فقط عبر هذا الإصرار يمكن للضمير أن يبقى قوة سياسية، ولتستمر الكفاح من أجل فلسطين — من أجل الكرامة والمساواة والحقيقة — في تشكيل مصير شعب ومزاج عصرنا الأخلاقي.
المهمة الأصعب والأكثر إهمالاً هي بناء قيادة سياسية جديدة على الأرض. ثمة فراغ الآن — ضيّق وغير مؤكد لكنه حقيقي. ليس سهلاً ملؤه، لكنه فراغ يجب انتهازه.
على الجيل القادم أن يدرك أن الشهادة والاحتجاج والتعليق من الهامش لم تعدا كافيين. لا أحد سيوجه إليهم دعوة لقيادة؛ عليهم أن يفتحوا الباب بأنفسهم بالمبادرة والوضوح والعمل التنظيمي الجاد.
حين يعود الفلسطينيون إلى نقطة الصفر السياسي، على من يريد قيادة من نوع جديد أن يشارك مباشراً في صياغة السياسات، والمساهمة في تشكيل وحشد وتمويل الحركات القادرة على حمل أمة إلى الأمام.
فقط عبر بروز قوى سياسية جديدة ولغة تستطيع مخاطبة الشارع وقاعات السلطة معاً، سيتمكن الفلسطينيون من استعادة صوتهم في هذا الفصل الجديد من القصة.
الآراء المعبر عنها في هذا المقال رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة موقف الجزيرة التحريري.