عاصفة عنيفة اجتاحت جنوب ألمانيا قبل نحو 150 مليون سنة، رفعت اثنين من الطيريات غير الناضجة عاليًا كأوراق خريفية. هذه الزواحف الهشة، التي كانت مولودة حديثًا أو قد فطمها الأهل للتو، دوّختها الرياح إلى داخل بحيرة ضحلة وماتت هناك. غرقت أجسادها سريعًا وغطتها رواسب دقيقة حركتها ذات العاصفة، وبمسابقة مع الصدف، تحولت عظامها إلى مستحاثات شبه كاملة.
اليوم، تكشف تلك العظام القديمة — المسماة «لاكي» و«لاكي الثاني» — للعلماء عن حياة الطيريات الصغيرة وكيف نالت حتفها. وتبيّن أيضًا سبب وفرة العينات الصغيرة في سجلات المستحاثات بالمنطقة وقلة ظهور البالغات منها.
من الوهلة الأولى تبدو عظام «لاكي» كاملة، لكن الفحص أظهر كسرًا مائلاً في الذراع اليسرى. و«لاكي الثاني» يحمل إصابة مماثلة في الذراع اليمنى. يعتقد علماء الحفريات أن هبات رياح عنيفة طوت أجنحتهما حتى انكسرت، فسقط الصغيران في الأمواج.
رب سميث، مؤلف الورقة وباحث حفريات في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، وصف التفاصيل المتوافرة بأنها مدهشة. قال: «إمكانية حفظ طيريات كاملة أمر نادر بالفعل، وإيجاد مستحاثة تروي سبب مقتل الحيوان أندر من ذلك».
جزر المستحاثات
في العصر الجوراسي لم تكن أوروبا قارة واحدة متصلة بل كانت أرخبيلًا من الجزر تحيط بها محيطات ضحلة واستوائية. شكل جنوب ألمانيا جزءًا من آخر امتدادات اليابسة قبل بحر التيثيس، وكانت أحواض سولنهوفن مشهورة بقدرتها الفائقة على الحفاظ على مستحاثات دقيقة، مثل الطائر الأول أركيوبتركس.
على مدى أكثر من قرنين اكتشف الباحثون مئات من مستحاثات الطيريات الصغيرة في صخور سولنهوفن الجيرية. العديد منها ينتمي إلى فصيلة بتروداكتيلوس أنتيكوس، وهي نفس مجموعة «لاكي» و«لاكي الثاني». ومع ذلك، يلفت الانتباه غياب الأفراد البالغة الكبيرة ووجود بقايا قليلة للجماجم والأطراف. من المعتاد أن الأجسام الأكبر تسجل مستحاثيًا بسهولة أكبر من الأصغر.
تشير الأبحاث الجديدة إلى أن العواصف قد حرّفت السجل. فالصغار الملتقطة بهبات عنيفة كانت تُقذف إلى البحيرات الضحلة وتُدفن سريعًا وتتحفّظ بتفاصيل استثنائية، بينما تطفو البالغات على السطح وتتعفّن قبل أن تستقر هياكلها العظمية على قاع البحر.
استخدم سميث وزملاؤه التصوير بالأشعة فوق البنفسجية لفحص المستحاثات، ما أظهر أنسجة رخوة مخفية وتفاصيل دقيقة في جدران العظام. قال ديفيد أونوين، المؤلف المشارك من جامعة ليستر، إن المشهد حين توهجت المستحاثات تحت الأشعة فوق البنفسجية «قفز حرفيًا من الصخر إليه — وتوقف نبضات قلوبنا».
طيور بدائية في مرمى الخطر
الفكرة القائلة إن هذه الطيريات الوليدة كانت قادرة على الطيران تقارب الولادة تتعارض مع الحُجج الشائعة؛ فمعظم الطيور والثدييات الطائرة الحديثة لا تطير بهذه السرعة بعد الفقس. لكن هذه المستحاثات تشير إلى أن صغار الطيريات ربما طارت قريبًا من لحظة الولادة، فتشابه كسورها جروح الطيران التي تصاب بها الطيور الصغيرة حين تلتقطها العواصف.
هذا التفسير ليس مقبولًا من الجميع. فقد رحّب ديفيد مارتيل، أستاذ فخري في جامعة بورتسموث، بالبحث لكنه اقترح أن الإصابات قد تكون نتيجة اصطدام الصخور. ونظرًا لغياب المنحدرات الحادة في تلك البحيرات، ظل متشككًا. مع ذلك أشاد كثير من المتخصصين المستقلين بالبحث؛ ووصف ستيف بروسات، عالم حفريات بجامعة إدنبرة، العمل بأنه «تحقيق حفريّ من أعلى رتب التحقيق» مشيرًا إلى أن «كل مستحاثة هي مأساة»، وهذه مأساة ذات قيمة علمية خاصة.
دفن «لاكي» و«لاكي الثاني» يضيء الكيفية التي شكّلت بها العواصف سجل المستحاثات؛ فقد حولت البحيرات الهادئة إلى قبور جماعية حين اختلطت مياه القاع السامة قليلة الأكسجين بالمياه السطحية، وقتلت حيوانات بحرية بكميات كبيرة— ونفس الأحداث جرفت الفراخ من الجزر المحيطة إلى البحر حيث دُفنت قبل أن تلتهمها الجيف.
المحركات الصغيرة في الخلايا
بينما قضت العواصف على مصير الطيريات القديمة، تدور عواصف من نوع آخر في كل خلية حية اليوم. تحت السطح توجد مصانع صغيرة تؤدي دور محطات طاقة: الميتوكوندريا. هذه العضيات تحول الغذاء إلى أدينوسين ثلاثي الفوسفات (ATP)، طاقة كيميائية تُشغّل كل شيء من تقلّص العضلات إلى الذاكرة.
كان يُنظر إلى الميتوكوندريا طويلاً على أنها «محطات طاقة الخلية»، لكن التقدم في تقنيات التصوير مثل المجهر الإلكتروني بالتبريد كشف أن البروتينات داخل الميتوكوندريا تنتقل لتتجمع في عناقيد أكبر أو تتفرق. هذه المرونة تتيح للعضيات التبديل بين أوضاع: تعظيم إنتاج الطاقة وقت الحاجة الشديدة أو الحد من الأذى الناجم عن نواتج سامة عند تعرض الخلية لإجهاد شديد.
ولأن المرونة هذه أساسية، فإن الميتوكوندريا تشبه أوركسترا سمعية لا محركات جامدة؛ تتجمع مجمعاتها البروتينية وتتفكك لتعديل إنتاج الطاقة في الزمن الحقيقي. عند انخفاض الأكسجين أو ارتفاع الطلب الفوري على الطاقة، تعيد الميتوكوندريا تنظيم بنيتها للحفاظ على بقاء الخلية.
التكيّف من أجل البقاء
تلك اللدونة مهمة بعد مرحلة الكتب المدرسية، لأن الميتوكوندريا المعطوبة متورطة في أمراض مثل الزهايمر والباركنسون والسكري وأمراض القلب. في هذه الحالات قد تفقد الخلايا القدرة على إعادة تشكيل بروتيناتها، ما يؤدي إلى عجز في الطاقة وتلف خلوي. قد يكون التقدّم في السن ببساطة تآكلًا تدريجيًا لهذه المرونة.
أظهرت الدراسة أيضًا أن الميتوكوندريا «تتحدث» مع بقية الخلية عن حالتها، كما يفعل نظام كهرباء يبلغ المدينة عن أعطاله. عندما تكون الأمور على ما يرام، يمكن للخلايا أن تنمو وتتطور؛ وعند الإجهاد تحذر الميتوكوندريا الخلية لتُحافظ مواردها. إن فهم هذه المحادثة قد يمكّن الأطباء يومًا ما من تصميم علاجات تعيد تشغيل الحوار وتثبّت الوضع.
قد تحمينا مثل هذه الأدوية أثناء احتشاء قلبي أو تُبطئ تدهور الخلايا العصبية في الخرف، والأكثر إثارة أن القدرة على تشخيص مرونة الميتوكوندريا قبل ظهور الأعراض قد تمنح فرصة علاج مسبق قبل حدوث تدهور لا رجعة فيه.
نوافذ على الحياة
يجمع هذان الخطان من البحث — المستحاثي والخلوي المعاصر — لوحة عن هشاشة ومرونة الحياة في آن واحد. قطعت عاصفة قصيرة رحلة «لاكي» و«لاكي الثاني» لكن تركتهما سليمي الهياكل ليفتحا نافذة للعلم بعد ملايين السنين. وداخل خلايانا تواجه تراكيب صغيرة عواصف إجهاد يومية تعيد تنظيمها كي نحيا.
تميل العلوم إلى كشف الجمال في أماكن غير متوقعة. جمال الميتوكندريا المطاطي وهشاشة هيكل الطيريات الشابّة يذكراننا أن الحياة ليست فقط رقيقة البشرة بل أيضًا ذكية وقادرة على التكيّف. من جزر الجوراسي المتقلبة إلى آلات خلايانا الخفية، يعتمد البقاء على القدرة على التبدل والتأقلم.
النتائج البحثية متاحة على الإنترنت في دورية Current Biology.