فاقَتِرَتْ السنوات بين 1945 و1952 فصلًا غريبًا في تاريخ اليابان: مدنٌ واقتصادٌ مُدمَّرَان بفعل قوات الحلفاء المنتصرة، ومشهدٌ ثقافي متقلب تحت وعودٍ متناقضة بـ«التحرير» الأميركي. أمام هذا الواقع اضطر الفنانون اليابانيون إلى اختيارٍ صعب بين التكيُّف مع مبادئ المُحتل أو المقاومة من أجل الحفاظ على استقلاليتهم الفنّية، وخياراتهم أبعد ما تكون عن أن تكون أحادية أو بسيطة.
تؤمّن أليشيا فولك في كتابها الجديد «في ظل الإمبراطورية: الفن في اليابان المحتلة» (2025) تصحيحًا مهمًا لهذا الفراغ النقدي. الكتاب، المبني على بحث مُتقن ومليء بالصور التوضيحية، يعيد قراءة الإنتاج الفنّي لتلك الحقبة كفضاءٍ متداخل من الممارسات التي تستجيب لتاريخ اليابان، لسياسات التحديث، ولإشكاليات الاحتلال.
في خمسة فصول مُصوَّرة بعناية، تُحلّل فولك كيف تنقّب الأسماء الفنيّة عبر تقنياتٍ متنوعة — من الطباعة والنقش إلى اللوحة والنحت — عن إمكانيات للوكالة الشخصيّة وسط ضغوط سياسية داخلية وخارجية وهزات اقتصادية. بدلاً من تصنيف الإنتاج بين «تعاونٍ» و«مقاومة» حصراً، تعرض الكاتبة تراكبًا من الاستجابات التي تعكس استراتيجيات متباينة ومتناقضة في آنٍ واحد.
من بين الأمثلة البارزة، يقف أونتشي كوشيرو متأثراً بالرسامين التعبيريين الأوروبيين مثل كاندينسكي ومنخ كقوة دافعة وراء ما صار يُعرف بطبعات «إبداعية» أعادت بناء صورة فنية ديمقراطية لليابان على المسرح الدولي، بدايةً برُموز مهرجانات سلمية ثم بتجريدات طليعية. بالمقابل، انكبّ فنانون مثل سوزوكي كينجي وإينو نوبويا على ما سميّ بـ«طبعات الشعب»، مكرِّسين عملهم لتصوير الحزن وكدّ الفلاحين والعمّال في استبطانٍ حاد لفترة ما بعد الحار، ومن ثمَّ لم ينفصل عن نقد اجتماعي عميق.
تولي فولك اهتمامًا خاصًا لاستراتيجيات الفنَّانات في قضايا التحرر النسوي؛ فميجيشي سيتسوكو وأكاماتسو توشيكو، كلتاهما عامِلَتان بالزيت، شاركتا بفعالية في نقاشاتٍ ثقافية وطنية عبر منابر كـ«جريدة الديمقراطية النسائية» ومعارضٍ نظمتها جمعيات الفنانات. غير أن فولك تبرز فرقًا جوهريًا بين منهجيتهما: إذ اتخذت ميجيشي أسلوبًا حداثويًّا مُؤسسًا على الذاتيّة التصويرية — كما في لوحتها القيّمة «صورة جامدة» (1948) — بينما رأت أكاماتسو أن الفن لا ينفصل عن جمهوره، فجاءت سلسلة «صور القنبلة الذرية» (1950–1982) التي عملت عليها مع ماروكي إيري وتُعرَف لاحقًا باسم «الأشباح» كمآتمٍ جماعيةٍ مُصمّمة للفضاءات العامة، مزيجًا بين حِبر اليابان التقليدي والأساليب التصويرية الغربية.
ورغم الطابع الجامعي الذي يكسو الكتاب أحيانًا، فإن بنائه المنهجي ووضوحه وحواره المستمر مع السرد السياسي والاجتماعي لليابان يجعلان قراءته مُشدِّدة وجاذبة. توضح فولك أن النُّصُب التذكارية للحرب والسلم لم تكن محايدة؛ بل أثارت انقسامات عامة. مثالان بارزان: حقق تمثال كيكوتشي كازوو «مجموعة السلام» (1950) — ثلاثُ نساء عاريات تمثلن الحب والإرادة والعقل — نجاحًا نسبيًا عند تدشينه في طوكيو، بينما أثار تمثال هونغو شين «أصوات البحر» (1950)، وهو ذكرٌ عارٍ يخلد تلاميذًا-جنودًا سقطوا في الحرب، جدلاً حادًّا؛ إذ قدّره بعضهم رمزًا للسلام ورآه آخرون تبييجًا لتاريخ اليابان العدواني في الحرب.
الخلاصة الكبرى في «في ظل الإمبراطورية» واضحة وواسعة: ينبغي إعادة تقييم الفن الياباني في فترة الاحتلال من هامشيةٍ تاريخية إلى مركزيةٍ كائناتٍ سياسية وثقافية تفاوضت على الذاكرة والهوية في شرق آسيا الحديث. الكتاب متاح عن طريق مطبعة جامعة شيكاغو ويدعو إلى إعادة فتح ملفات تلك السنوات بعيونٍ نقدية جديدة.