باربيتا/غواهاتي، ولاية آسام، الهندت — لأكثر من خمسة عشر عاماً، كان سائق الشاحنة إمام حسين يجد في صوت وموسيقى المغنّي زوبين غارغ ملاذاً يواسيه أثناء قيادته لسيارته في ليالي هادئة ووحيدة على تلال وسهول الهيمالايا في شمال شرق الهند.
كانت تلك فترة واجه خلالها المسلمون الناطقون بالبنغالية — الجماعة التي ينتمي إليها حسين (42 عاماً) — تصاعداً في الهجمات والاتهامات. اتُّهموا بأنهم غرباء، بل متسلّلون في بيوتهم ذاتها.
وسط توتر متصاعد بين الهندوس والمسلمين، بدت موسيقى غارغ — الذي كان هندوسياً — نادراً ما يجمع الناس. قال حسين: «كانت موسيقاه سلامي الداخلي».
في 19 سبتمبر، لقي غارغ حتفه غرقاً قرب جزيرة لازاروس في سنغافوورا، حيث كان من المقرّر أن يحيي حفلة ضمن مهرجان شمال شرق الهند، احتفال بالفنون والثقافات الإقليمية.
أثار الوفاة المفاجئة للفنان البالغ من العمر 52 عاماً، الذي كان يتمتع بمكانة شبيهة بالعبادة بين ملايين معجبيه داخل آسام وخارجها، موجة حداد هائلة عزّزت مكانته كشخصية عامة تجاوزت الانقسامات التي مزّقت الولاية. قالت زوجته غاريما سايكيا غارغ إن زوجها «تعرض لنوبة صرع» أثناء السباحة في البحر.
بينما حداد حسين على رحيل غارغ، كان رئيس الوزراء ناريندرا مودي أيضاً ينعى الراحل، وذلك رغم أن حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم الذي ينتمي إليه مودي يتهمه منتقدوه بالاستفادة من الانقسامات بين الهندوس والمسلمين على الصعيدين الوطني والمحلي في آسام.
قال مودي في رسالة تعزية: «سيُذكر لإسهاماته الغنية في الموسيقى. كانت تَأْويلاته تحظى بشعبية واسعة بين الناس من مختلف شرائح المجتمع».
وتحدث رئيس وزراء آسام هيمانتا بيسوا سارما، المنتمي إلى حزب مودي، قائلاً إن الولاية «فقدت أحد أبنائها المفضلين».
وأضاف سارما: «كان لصوت زوبين قدرة فريدة على إذكاء حماس الناس، وكانت موسيقاه تخاطب عقولنا وأرواحنا مباشرة. لقد ترك فراغاً لن يملأ أبداً».
أعلنت حكومة آسام أربع أيام حداد رسمي، وسافر سارما إلى نيودلهي لاستلام جثمان غارغ عند عودته من سنغافورة.
خلفية مستقطبة
بعد يومين، في 21 سبتمبر، احتشد عشرات الآلاف من معجبي غارغ خارج مطار غواهاتي الرئيسي، أكبر مدن آسام، وانتظروا وصول الجثمان ثم ساروا خلف موكب نقله إلى ملعب يبعد نحو 30 كيلومتراً لعرض الجثمان على الجمهور، وهم يغنون معاً بعض أشهر أغانيه؛ حمل بعضهم ملصقاته، وسار آخرون وعيونهم دامعة، وشعلوا الشموع. بعد أربعة أيام من الحداد الرسمي، أحرق جثمان غارغ في 23 سبتمبر مع تكريمات رسمية كاملة وتحية مدفعية من 21 طلقة.
كانت مشاهد الوحدة هذه استراحة نادرة من الانقسامات الدينية واللغوية التي تعمّقت في آسام في السنوات الأخيرة.
لا تعود خطوط الخلاف بين السكان الأصليين الناطقين بالآسامي والمجتمعات الناطقة بالبنغالية، والتي جاء معظمها مهاجرين، إلى زمن قريب؛ بل تعود إلى قرنين من الزمن، عندما جلب البريطانيون أعداداً كبيرة من الهندوس الناطقين بالبنغالية من البنغال لتولي وظائف الإدارة الاستعمارية، فأثار ذلك استياء السكان الأصليين الذين خشوا أن يفقدوا وظائفهم وأراضيهم لصالح الوافدين.
وجاءت موجة ثانية من هجرة الناطقين بالبنغالية من الهندوس والمسلمين إلى آسام بعد استقلال الهند في 1947 وتكوّن باكستان، التي شملت فيما بعد أراضٍ أعلنت استقلالها عام 1971 باسم بنغلادش. هاجر ملايين من بنغلادش إلى آسام آنذاك، فتسبّب ذلك بردود فعل عنيفة في كثير من الأحيان من السكان الأصليين.
لا تزال هذه التوترات العرقية والدينية تهيمن على السياسة في آسام حتى اليوم، مع تزايد الشكوك بشأن هوية ومواطنة المسلمين الناطقين بالبنغالية — الذين يُستخدم ضدّهم أحياناً اسم سلبي «ميا» — وأُعلن عن آلاف منهم «متسلّلين بنغلاديشيين» وأُرسل كثيرون إلى معسكرات احتجاز أو أُجبروا على العبور إلى بنغلادش بواسطة قوى الأمن الهندية.
كتب غارغ موسيقاه في ظلّ هذه الخلفية المستقطبة، مستجيباً للشروخ الطائفية بأبيات صاغها بصوته وفنه.
في مناسبات عديدة وصف المغنّي نفسه بأنه ملحد و«يساري اجتماعي»، مبرزاً بعده عن الأحزاب التقليدية في الولاية، سواء حزب المؤتمر الوسطي أو حزب بهاراتيا جاناتا اليميني.
وكان كذلك ناقداً صريحاً للنظام الطبقي المتجذر في الهند.
في فيديو متداول بعد وفاته يظهر شخص على المنصة يتهكم من غارغ لعدم لبسه الخيط المقدس الذي يرتديه بعض البراهمين، أعلى طبقات النظام الطبقي الهندوسي؛ فردّ غارغ: «أنا مجرد إنسان. لا طبقة لدي، ولا دين، ولا إله».
وفي مناسبة أخرى شجّع غارغ في 2018 البطلة الأولمبية الآسامية الشهيرة هيما داس على أكل اللحم البقري «لكي تكتسب قوة» للتنافس في المحافل الرياضية الدولية والوطنية. كثير من الهندوس من طبقات مميزة يجلّون البقرة، ويحظر قتلها وأكل لحمها في عدة ولايات هندية. ولا يُعرف ما إذا كانت داس قد قبلت نصيحة غارغ أم لا.
كما كان في طليعة حملة عام 2019 ضد قانون الجنسية الجديد المثير للجدل في الهند، الذي جعل الدين معياراً لتسريع منح الجنسية للمهاجرين من دول الجوار مستثنياً المسلمين. أثار القانون احتجاجات على مستوى البلاد واتهمته الأمم المتحدة بأنه «تمييز جوهري» ودعت إلى مراجعته.
قالت منشِئة المحتوى الآسامية على وسائل التواصل الاجتماعي، الدكتورة Medusssa، لِـ«الجزيرة» إن مواقف غارغ العامة برزت وسط تنامي خطاب الكراهية المعادي للمسلمين في المجتمع الآسامي، فتحوّل إلى رمز للتعايش بين الهندوس والمسلمين.
وأضافت ميدوسّا: «إنّ شخصية زوبين الشاملة، وكيف مثل المجتمعات المُهمّشة بأغانيه، هي التي تجعل الجميع يدّعون إرثه».
«رفض أن ينتمي إلى أي جماعة بعينها.» كان للجميع.
بالنسبة إلى أكيل رانجان دوتا، عالم السياسة في جامعة غواهاتي بولاية آسام، يفسر احتفاء ناريندرا مودي وبريم كومت سَرما بزوبين غارغ — رغم معارضته الصريحة لهيمنة التيار الهندوسي — جزئياً بأسلوب الفنان نفسه في مقاربة سياسة السخط والرفض الاجتماعي.
يقول دوتا لقناة الجزيرة: «بينما كان غارغ ينتقد علناً سياسات وإجراءات حكومات حزب بهاراتيا جاناتا على المستوى الاتحادي والولائي، نادراً ما شن هجوماً شخصياً على قادته. وهذا سهّل على الحزب أن يستلّ إرثه؛ لأن تجاهل حدادهم عليه كان سيضعهم تحت مساءلةٍ عامة».
معلق سياسي آخر امتنع عن الكشف عن هويته تخوّفاً من ملاحقات حكومية، عبّر بصراحة أكبر عن قدرة غارغ على اجتياز الانقسامات السياسية. قال إن غارغ، رغم احتقاره الحزبي للحزب، «لم يحرّك أعصابهم بالتشهير بسياساتهم المعادية للمسلمين أو بالهجمات على المسلمين بصراحة مفرطة»، وبذلك لم يشعر الحزب القومي الهندوسي بأنه مُنفِر منه تماماً.
قوة فنية
ولد زوبين غارغ عام 1972 في بلدة جورهات لوالديه الكاتب الآسامي موهيني موهان بورثاكور والمطربة إيلي بورهاكور، وبدأ الغناء منذ الثالثة من عمره حتى صار يعتبر معجزة طفلاً لدى معلميه. انتقل إلى غواهاتي لتأسيس مسارٍ مهني غنائي ونال انطلاقة كبيرة عام 1992 بألبومه الآسامي الأول «أناميكا».
كانت تلك خطوة البداية لمسيرة لامعة أدّت إلى أن يؤدي غارغ أكثر من 38 ألف أغنية بلغات ولهجات متعددة. دخل الساحة الوطنية عندما غنّى هتفه الهندي الشهير «يا علي» عام 2006 لفيلم Gangster: A Love Story، وراح يغنّي أيضاً لعدة أفلام بوليوودية. وفي العام التالي نال الجائزة الوطنية لتلحينه أغنيات الفيلم غير الروائي «صدى الصمت». عرفه الجمهور بألقاب محببة بينها «زوبين دا»، ثم خرج لاحقاً إلى التمثيل والإخراج.
إذا كانت ثروة أعماله لافتة، فإن ما ميّز غارغ في نظر أنغشومان تشودري، المرشح المشترك للدكتوراه بجامعة سنغافورة الوطنية وكلية كينغز لندن، هو رفضه الخضوع لصورة «الفنان الآسامي المروّض والمتأنّق». ويصف تشودري الثقافة الشعبية في الولاية حتى التسعينات بأنها تشكّلت بفعل فنانين مثل بوبين هازاريكا وجانياتا هازاريكا، الذين «احترموا قواعد اللياقة الاجتماعية ولم يخرجوا عن النص، وافتقَروا للجرأة الأيقونية التي كان يتحلّاها غارغ».
يضيف تشودري: «كان غارغ، بالمقابل، قوة فنية هادفة إلى التفجير والتشويه للصورة النمطية للفنان العام. كان يستخدم ألفاظاً نابية أحياناً على المسرح، ويغنّي مخموراً، وفي مناسبات عدة أبدا تحدياً صريحاً للمعايير الثقافية الراسخة».
مثال على ذلك أنه رفض مرة أن يشارك في حفل مهرجان بيهو — وهو أهم مهرجانات آسام — بعدما اشترط المنظمون ألا يغنّي بالهندية.
لمسة إنسانية
يرى بريثيراج بوراه، أستاذ علم الاجتماع بآسام يدرّس في الأكاديمية الوطنية للدراسات القانونية والبحوث في حيدر آباد، أن فن غارغ تجاوزه الترفيه إلى أسئلة عميقة عاطفياً وفلسفياً. قال للجزيرة: «أغنيات زوبين لم تكتفِ بالتسلي؛ بل نبرت في أعماق ما يعني أن تكون إنساناً، أن تحب، أن تتألّم، وأن تبحث عن معنى في عالم غالباً ما يبدو عبثياً».
يستشهد بوراه بأغنية غارغ «باخي باخي إي مون» — التي يمكن فهمها كـ«قلبي كالريشة» — حيث يستكشف ثيمة الحرية والأسر. «تصبح الريشة استعارة للحالة الإنسانية، محاصرة بين رغبة الانعتاق وواقع القيود المتعددة»، يقول بوراه.
في متناول الجميع
عبّر أبرار نديم، ضابط صحي في منطقة باربيتا بآسام، عن تعلقه بأغنيات غارغ منذ أن كان في الرابعة من عمره. قال نديم، الذي يقف أمام ملصق مزين بالزهور لزوبين مرتدياً السواد حداداً: «أغنيته ‘أيه مايّار دغورات’ جلبت لي طمأنينة روحية». وأوضح أن الأغنية تصف سعادة زمنية زائلة في عالم يستمتع فيه الفاسدون بعد ارتكابهم ظلماً وفساداً وقمعاً، لكن لا شيء يبقى في النهاية.
نديم بنغلاديشي الناطق بالبنغالية وراشِد في عشقه لزوبين [Kazi Sharowar Hussain/الجزيرة]
تقول مايترايي باتار، شاعرة وكاتبة آسامية بارزة تعاونت مع غارغ حتى عام 2023، إن الفنان «كان يفيض بإنسانية خامة ومرتبطة بالناس». وتضيف: «تجاهل الصوابية السياسية ورفض الاصطفاف مع السياسات الأغلبية أو مع أي حزب، وهذا ما جعله يظهر كفنان محبوب من الجميع».
مع فيضان المقاطع لأغانيه ومقابلاته القديمة على شبكات التواصل في آسام، يروِي حسين، سائق شاحنة بنغلاديشي-مسلم في غواهاتي، أن رفضه القاطع لسياسات الكراهية وتواضعه في معاملة الناس على قدم المساواة جعلاه في متناول الكل.
كان غارغ هندوسياً، ومع ذلك انتشرت بعد وفاته لقطات لطلاب في المدارس الدينية الإسلامية وهم يشغلون أغانيه، وأقام زعماء مسلمون صلواتٍ على روحه وتلاوات قرآنية أمام صوره — ممارسات حداد لا تُرى عادةً في هذا السياق الديني. يبرر نديم ذلك قائلاً: «غنّى جِكير — أغنيات روحية شعبية يغنّيها المجتمع المسلم الناطق بالآسامي — تكريماً لنا، فلا حرج أن ندعو له بغنائه».
في غواهاتي تذكّر حسين كيف أن غارغ «لم يمحِّ سمعة» المسلمين الناطقين بالبنغالية، وهو يرتدي قميصاً يحمل صورته، وبدأ يدندن على هتفه الأيقوني لعام 2007 «مايا» — أغنية تشبّه مطاردة هوى حبٍ بما يشبه الوهم. تقول نغمة الأغنية الهادئة لحسين إن فراغ رحيله لا يزال سارياً.
في موسيقى غارغ، لم تكن فكرة آسام للأقوام جميعها — هندوس ومسلمون، الناطقون بالآسامي والناطقون بالبنغالية على حدّ سواء — وهمًا. مؤلفاتة تركت بصمةٍ تؤكد أن التعايش والتقارب الثقافي ممكنان. المرجو تزويدي بالنص المراد ترججمه وإعادة صياغته.