يجب أن يكون هناك مستوى من القلق ملازماً للعيش في نابولي، في ظلّ ظِلّ فيزوفيو. ليس الأمر مجرّد بركان نشط قد يفور في لحظة، بل أنه فَعَل ذلك مراراً عبر التاريخ، وأن أعظم ثوره — تلك التي دمّرت بلدَي روما القديميْن بومبايِ ومركورانيوم عام ٧٩ ميلاديًا وحافظت عليهما في ركام الرماد — أصبحا اليوم مقصداً سياحياً عالمياً. يمكن للزوار أن يفرُّوا من بيوت وأجساد أسلاف ماتوا فزعاً، اختناقاً بالرماد والغازات السامّة، لكن الشعور قائم بأن ما حلّ بهم قد يَحلُّ بمن تعيش معهم غداً.
المخرج جيانفرانكو روزي يلتقط هذا القلق ببراعة في فيلمه «تحت السحب»، مصوِّراً بالأبيض والأسود بأناقة تمنح العمل صبغة حالمة؛ بل ويفتتحه بنص مقتبس لجان كوكتو. يتنقّل المخرج في أحياء المدينة الجنوبية، بين أشخاص ومؤسسات، محاولاً رصد فسيفساء التجارب المدنية باتساعها.
تبرز خصوصيات المدينة أثناء التصوير: الكرابينيري المحليون يحققون في أنفاقٍ غير مشروعة تُستخدم لنهب القبور القديمة؛ رجال الإطفاء يراقبون النشاط الزلزالي القادم من البركان؛ مدرس لغات بعد الدوام يعلّم الفرنسية بمقارنتها باللهجة النابولية. تتناثر لقطات تصويرية كلوحاتٍ — قطارات commuter تجري على سكة؛ أمواج البحر تقابل سُيول الحمم؛ تماثيل غريكو‑رومانية تستلقي في قاع البحر — لُقطات تشبه ما عُرف بـ«pillow shots» عند أوزو، تعطي للفيلم إيقاعات تأملية.
تظهر نابولي كنوع من المجسّم المصغر للكارثة القائمة على باب العالم. ذلك ما يتجلّى بوضوح — وأحياناً بسخرية — حين يتصل السكان بالإطفاء بعد هزّة أرضية يُخشى أن تكون مقدمة لثوران. المتصلون يتراوحون بين المذعور («أيُّ موت يريدون منا أن نموته؟» تقول امرأة) وبين الساخر المتململ («كنت أطهو رَاجو شهياً» يشتكي رجل مستاء). قلّما شعرنا بعبء مقولة ماركس الشهيرة عن التاريخ كأنه «كابوس على أدمغة الأحياء» بمثل هذا الحرفية الحرفيّة.
في لحظات يصبح طرقُ الباب أكثر إلحاحاً. يومئ المخرج إلى أفلامه السابقة — «حريق في البحر» (2016) و«نوترنو» (2020) — حين يصوّر عبّارة شحن يعمل طاقمها من سوريين تنقل الحبوب من وإلى اوديسا تحت قصف روسي. يشاهد الطاقم تقارير عن سفن تُستهدف ولكنهم لا يتأثرون كثيراً: «نحن السوريون معتادون على الحرب والقنابل».
يحمل التاريخ وزناً خاصاً في مشاهد تدخل إلى مخازن متحف تشبه السراديب. يتأمّل المشاهدون غرفاً ملأى بتماثيل وآثار قديمة، بعضها على رفوف ومرتب، وبعضها مرمٍ في كومة هائلة من الرؤوس والأجساد الحجرية من عصورٍ متعددة: يونانية، رومانية، بُوربونية، حديثة. تُصوَّر الأهمُّ أو الغريب منها — كتمثال لاكشمي الذي وُجد في بومباي ودُوّنت عليه ملاحظة باحثة أنه «فينوس الهند» — كدليلٍ على تواصلٍ قديم مع الثقافات الشرقية.
تعمل هذه المشاهد، حيث يلتقي الفن التاريخي بصور روزي السامية، كمذكرة مذكّرة بالموت لكلّ الحضارات والسلاطين المتروكين في الغبار. تذكرنا بأن الحدود والدول اختراعات معاصرة: نابولي، في الأساس، أقدم من إيطاليا بوصفها دولة قومية تشكّلت عام 1861. بومباي أقدم من نابولي. وفيزوفيو، أقدم من أي دولة، سيبقى أطول منا أجمعين.
يعرض فيلم «تحت السحب» في مهرجان نيويورك السينمائي (العنوان: ١٤٤ ويست ٦٥ ستريت، لنكولن سكوير، مانهاتن) في ٥ و٦ أكتوبر.