قمة ألاسكا لم تكن «ميونخ جديدة» لكنها قد تصبح «يلتا جديدة» — الحرب الروسية في أوكرانيا

في الآونة الأخيرة، تكابد القوات الروسية لصعوبات جسام في تحقيق مكتسبات عسكرية جوهرية. جنودها يواجهون معارك استنزافية في أوكرانيا، يسقطون بالمئات أحياناً من أجل التقدم بمئات الأمتار أو من دون أي تقدم يُذكر.

على الصعيد الدبلوماسي، تبدو الصورة مختلفة. حقق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نصرًا دبلوماسيًا بارزًا عبر عقد قمة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب. في قاعدة إلمندورف-ريتشاردسون المشتركة بألاسكا ساد جو ودي، صافح ترامب بوتين على السجادة الحمراء ورافقه إلى ليموزين الرئاسة بينما بدا القائد الروسي مبتسمًا كمن وجد ضالته. خرج الرجلان من اجتماع استغرق قرابة ثلاث ساعات بلا بيانات تحمل تفاصيل كثيرة؛ كلاهما تحدث عن تفاهمات في ملفات متعددة، ودعا بوتين ترامب إلى موسكو، فآثر الأخير التأجيل – على الأقل في الظاهر.

لم يتسرّب إلى العلن الكثير حول مضامين المحادثات بدقة. حاول بوتين في تصريحاته توحيد الانطباع بأن اللقاء جرى وفق صياغته: أثار مخاوف أمنية روسية وامتدح منافسه الأميركي لمحاولته «فهم التاريخ» المتعلق بالنزاع. ونقل السفير الروسي لدى واشنطن، ألكسندر دارشيف، عن مناقشات ثنائية ملموسة سوى قضية أوكرانيا، مشيرًا إلى إثارة مطلبين دبلوماسيين رئيسين: استعادة ستة مقرات دبلوماسية روسية حُكمًا صادرتها الإدارة الأميركية السابقة، وإعادة تسيير الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين.

من جانبه بدا ترامب متراجعًا عن مطلب وقف إطلاق نار كان قد دعا إليه علنًا قبل القمة، واتفق بدلاً من ذلك على طرح مطلب الكرملين بحل شامل للنزاع أمام أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين. ونشر لاحقًا على منصته «تروث سوشيال» أن الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا يشاطرانه الرأي بأن «أفضل وسيلة لإنهاء الحرب المروعة بين روسيا وأوكرانيا هي التوجه مباشرة نحو اتفاق سلام».

ورغم ميل ترامب إلى موقف روسي من مسألة وقف النار، تجنّب الاجتماع أسوأ السيناريوات. لم يتحول اللقاء إلى «ميونخ جديدة» يُكوّن فيها الرئيس الأميركي تنازلات إقليمية على غرار استرضاء قادة غربيين لساسة معادين في تاريخ مضى؛ ترامب لم يقرّ بمطالب روسية تتعلق بالسيادة الإقليمية.

يقرأ  الأرجنتين تتصدر مجموعتها بعد فوز مستحق على بولندا في كأس العالم

مع ذلك، مثلت القمة نصرًا تكتيكيًا لبوتين، إذ أرسلت إشارة عالمية مفادها أن الرئيس الأميركي نفسه يخفف من وصمة العار التي لحقت بالكرملين بعد غزوه الأحادي لأوكرانيا في 2022 والاتهامات بارتكاب جرائم حرب لاحقة. عُومل الزعيم الروسي كقائد «قوة كبرى» يستدعى التفاوض معه وفق شروطه، وهو وضع ظلّ يسعى لاستعادته طويلاً.

فأين يضع ذلك أوكرانيا وحلفاءها الأوروبيين؟ واضح أن موقف ترامب صلب تجاه أوكرانيا؛ فهو يكن إعجابًا كبيرًا لشخصية بوتين وأسلوب حكمه. لكن بروكسل ولندن وكييف لا يمكنهن التخلي عنه: الدعم الأميركي المستمر لا غنى عنه لتمكين أوكرانيا من مواصلة دفاعها. تحمّلت أوروبا حصة أكبر من أعباء التمويل منذ تنصيب ترامب لدورته الثانية، لكن قدراتها العسكرية وسلاسل توريد صناعات الدفاع لديها لا تزال بعيدة عن أن تحل مكان الولايات المتحدة في المدى المنظور، حتى لو رفعت الاستثمارات بشكل هائل.

ترامب يريد «السلام» بالاسم ولا يبالى بالتفاصيل. بالنسبة لكييف، التفاصيل تعني الوجود ذاته، ولأوروبا فإن مصير أوكرانيا يحدد مدى احتمال أن تصبح هدفًا لاحقًا لعدوان بوتين في عالم يعيد هو نفسه ترتيبه الجيوسياسي.

هذا لا يعني أنه لا سبيل لتغيير مواقفه. ثمة سبل — يمكن لأوكرانيا وأوروبا أن تستعير صفحات من دفتر بوتين في كيفية التعامل مع الرئيس الأميركي. ترامب يحب أن يُدلّل كبرياؤه، وما فعله بوتين مرارًا أمام وسائل الإعلام من قبل كان ترديد ثناء يمدح أحاديث ترامب، كقوله إن حرب 2022 ربما لم تكن لتندلع لو كان ترامب رئيسًا آنذاك.

المضي في مسارات دبلوماسية متواصلة هو الخيار الأنجع، مع السعي إلى إعادة تأطير النزاع في عيون ترامب. ما يشغله أكثر هو مستقبل صادرات الطاقة الأميركية، والتنافس مع الصين، وخطر تحدي الهيمنة الاقتصادية الأميركية، واستغلال الموارد القطبية — وكلها أمور تبدو أكثر أهمية لديه من أوكرانيا ذاتها. لم يكن اختيار مكان اللقاء في ألاسكا صدفة، واهتمامه الغريب بأخطار غرينلاند يتضح في هذا الإطار.

يقرأ  صراع زامير مع نتنياهو يعمّق الاضطراب في قيادة الجيش الإسرائيلي

المفتاح هو إقناع الرئيس الأميركي بأن روسيا تشكّل تهديدًا لمصالح واشنطن في هذه الميادين. التخفيف من العقوبات قد يتيح مشاريع الغاز الطبيعي المسال الروسية لتدفق السوق وخفض أسعار صادرات الغاز الأميركي. بوتين أعاد توجيه اقتصاد بلاده ليعتمد على صادرات خاماته للصين، ما يعزّز قدرته التنافسية عبر مواد خام رخيصة. كما حاول دفع بكين لأن تتصرف بشكل أكثر عداءً اقتصادياً تجاه النظام المالي القائم بدعوات لتخفيض هيمنة الدولار وإرساء أطر تجارية وتمويلية تستبعد الولايات المتحدة. روسيا أيضاً تطمح للهيمنة على القطب الشمالي من خلال توسيع أسطولها القطبي بجسور ثلجية نووية وغواصات.

حرب بوتين في أوكرانيا لم تكن قط مسألة خطوط الفصل في دونباس أو استحضار مظالم التاريخ السوفييتي وحدها؛ إنها حرب لإعادة تشكيل عالم بأطره. من جهته ينظر ترامب إلى الحرب كعائق يثقل جهوده في إعادة تشكيل الأولويات العالمية لصالح أميركا.

فقط إذا أدركت كييف والغرب أوسع أبعاد مقاربة ترامب يمكنهما إقناعه ما على المحك. يجب أن يركّزوا على كيفية إضرار بوتين بالمصالح الأميركية وطريقة إدراك ترامب لذلك. وإلا، فربما لم تتحول قمة ألاسكا إلى «ميونخ جديدة»، لكنها قد تؤول إلى إرث أشبه بـ«يالطا جديدة» تُرسم فيها مستقبل أوروبا عبر مناطق نفوذ حصرية تُحدّدها موسكو وواشنطن.

وجهات النظر المعبر عنها هنا تعود للمؤلف ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري للقناة. الى الملاحظ أن النتائج لا تزال مفتوحة. الننار في أوكرانيا ما تزال مشتعلة.