كنيسة من روث الفيلة تثير الجدل في بينالي البندقية

افتُتحت الدورة التاسعة عشرة من بينالي العمارة في مدينة البندقية، حيث وجد الزائرون أنفسهم أمام تجربة غير مألوفة. فبدلاً من التصاميم الهندسية التقليدية والمجسمات المعمارية المتعارف عليها، تركّز المعروضات هذا العام على نقد معمق لدور العمارة في أزمات العصر، وفي مقدمتها أزمة المناخ.

في قاعات العرض بمنطقة الأرسينالي وحدائق الجيارديني التي تحتضن الأجنحة الوطنية، لا تهيمن الهياكل الخرسانية أو الأبراج الفولاذية، بل يطغى محتوى يسلّط الضوء على العلاقة المتوترة بين الإنسان والبيئة، وعلى مساهمة قطاع البناء في تفاقم الكارثة البيئية.

فوفقًا لبيانات حديثة، يُعد قطاع البناء من أبرز المتهمين بالتسبب في أضرار بيئية جسيمة، حيث يسهم بنحو 50% من انبعاثات الغازات الدفيئة عالميًا، ويستهلك 60% من الموارد الطبيعية، ويستحوذ على 70% من الأراضي المستخدمة. في الوقت نفسه، يواصل التغير المناخي التصاعد بوتيرة غير مسبوقة، وتزداد درجات الحرارة، وتضرب الكوارث الطبيعية المدن والبيئات حول العالم.

العمارة بحاجة إلى تحوّل جذري

كارلو راتّي، المعماري الإيطالي والمخطط الحضري من تورينو، والذي يتولى تنظيم نسخة هذا العام من البينالي، يرى أن النهج السائد في العمارة المتمثل في الحد من الأضرار البيئية لم يعد كافيًا. ويقول: “حان الوقت للانتقال من فكرة التخفيف إلى التكيّف. يجب علينا إعادة التفكير في كيفية التصميم في ظل عالم تغيّر جذريًا”.

من هنا انطلق شعار المعرض: “Intelligens. Natural. Artificial. Collective”، وهو مفهوم مُبتكر يجمع بين كلمة “intelligence” (ذكاء) واللاتينية “gens” (الناس). ويهدف إلى دمج أشكال الذكاء المختلفة – الطبيعي، الصناعي، والجماعي – في مواجهة التحديات المعمارية والبيئية.

مواد عضوية.. وروث فيلة

المعرض مقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، تبدأ بـ”الذكاء الطبيعي”، حيث تُعرض مواد بيولوجية مبتكرة، منها السيراميك الحيوي المصنوع من قواقع البحر، وحلقات حجرية متينة مصنوعة من روث الفيلة تُشكل أقواسًا مدببة تؤدي إلى فضاء تعبدي يُدعى “كنيسة الفيلة”. هذا العمل الفريد نال تقدير لجنة التحكيم ونال تنويهًا خاصًا.

الذكاء الاصطناعي والاجتماعي

القسم الثاني يركّز على الذكاء الاصطناعي، حيث تُعرض تقنيات روبوتية تستخدم الذكاء الصناعي لتنظيم مساكن اجتماعية، إلى جانب طابعات ثلاثية الأبعاد تنتج نماذج سكنية حديثة كالبنتهاوس.

أما القسم الثالث، فيتناول الذكاء الجماعي، مستعرضًا نماذج من الاحتجاجات البيئية، مثل مظاهرات غابة هامباخ، ورسائل وشهادات من مخيمات اللاجئين الروهينغا، بالإضافة إلى مبادرات كـ”HouseEurope” التي تسعى للحفاظ على المباني القديمة وإعادة استخدامها بدلًا من هدمها.

الحياة في الفضاء؟.. لكن ليس بديلاً

وتتضمن المعرض أيضًا قسمًا رابعًا بعنوان “Out”، يستعرض سيناريوهات محتملة للحياة البشرية والنباتية في الفضاء الخارجي وسط ظروف مناخية قاسية. إلا أن الرسالة الأساسية واضحة: الهروب إلى الفضاء ليس حلًا مستدامًا، بل يجب أن نركز على حماية كوكبنا الحالي وتحسين ظروف الحياة عليه.

بهذا الطرح غير التقليدي، يُثبت بينالي البندقية أن العمارة لم تعد تقتصر على البناء والتصميم، بل أصبحت مساحة مفتوحة للتفكير النقدي والإبداع المشترك في زمن الأزمات.