غابرييل بيجاني تواجه حزن مشاهدة قصف إسرائيل عن بُعد

في 27 نوفمبر 2024، بدا أن هدنة أعلِنت بين إسرائيل ولبنان بعد أشهر من العنف المسلح في الجنوب اللبناني قد تحمل بصيص أمل—ربما مؤقت. لكنّ الأمل تلاشى خلال ساعات: فُتحَت نيران الجنود الاسرائيليون في بلدة خيام فيما صرّحت السلطات العسكرية الإسرائيلية أنّها تردّ على خروقات نسبت إلى حزب الله. بعد ذلك مباشرة شرعت غابرييل بيجاني في سلسلة أعمال فنية تجسّد الحزن والغضب والشعور بالذنب الذي انتابها كفنانة لبنانية-فلسطينية.

لم تكن العملية إرادية بالكامل؛ قالت إن الفن بدأ يتسلّل إليها ببطء، كحدس لم تنكره. لوصف ما شعرَت به استعانت بصورة قاسية نوعاً ما—كأنّ الأثر «يتقيأ» من الداخل—لكنها قصَدَت بذلك هذا التدفق القسري للأفكار والمشاعر التي تبعت المواجهات.

ترجع جذور عائلة بيجاني إلى حيفا؛ فقد فرّت جدّتها من موطنها قبل النكبة بأقل من أسبوعين، واستقرت لاحقاً في بيروت. غادَر والدُوها لبنان أثناء الحرب الأهلية، وأنجبت غابرييل في باريس. تعيش اليوم في جنوب لندن لكنها تزور بيروت وباريس بشكل متكرر.

تتنقّل ممارستها الفنية بين الرسم والرسم بالحبر والتجميع (كولاج)، مستخدمة هذه الوسائط للتساؤل عن الجندر والهوية الجنسية وسجلّ العائلة. لكن ما دفعها إلى تناول مفهوم الأرض في هذه السلسلة كان مشاهدتها العنف في لبنان من بعيد؛ شعور الغربة أو البعد حفّز تأملها في علاقة الإنسان بالأرض.

تساءلت: كيف نعيش على الأرض؟ ما الذي يخصّنا؟ وأيّ أجزاء من أرضنا نستطيع الوصول إليها؟ هذه الأسئلة صارت محورية في اشتغالها.

وأثناء العمل قرأت العدد السابع والخمسين من مجلة The Funambulist الفرنسية، التي ناقشت العلاقة بين السياسة والفضاء، وصفت الليل كزمن للعمل الثوري. في الوقت نفسه تذكّرت وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للفلسطينيين بأنهم «أبناء الظلام»، مقابل رسم الإسرائيليين كـ«أبناء النور». لتحويل هذه الاستعارة، سعت بيجاني إلى استعادة الظلام كعنصر للهوية والمقاومة بدل أن يبقى رمزا للشر المفروض.

بالنسبة إليها، ثمة فكرة مفادها أن «الجسم الإمبراطوري» يحتاج إلى الضوء ليُحكم السيطرة على الأجساد؛ بينما من يعرفون أرضهم يستطيعون التحرك في الظلام بثقة ومعرفة.

يقرأ  لوحة فريدا كاهلو قد تكسر الأرقام القياسية في المزادات

قبل اندلاع ما سمّته إبادة، كانت متحفظة جداً عن إدراج تاريخها العائلي في العمل؛ رغبت في إبقاء ذلك لنفسها. لكن ضجيج الأحداث أجبر الأفكار على الصخب، وأصبح الفن بالنسبة إليها أداة للبقاء النفسي. تغيّرت طريقة تعامل الآخرين معها في الغرب وتغيرت كذلك علاقتها بالناس—وهذا التحوّل لم يخلُ من تأثير على عملها الفني.

المعرض الناتج حمل عنوان «أحلام متعمّدة» وعُرض في يوليو في صالة صالح بركات في بيروت. عبر مناظر ليليّة ضبابية تتحدث كل لوحة عن طرائق تأملها في العنف المسلح، وتستدعي عناصر يومية ثقافية—مثل الورق الحائطي المعروف في شوارع بيروت والطوابع البريدية اللبنانية من القرن العشرين—لتؤكد على حفظ وصون خصوصية الانتماء اللبناني-فلسطينيه.

في عمل بعنوان Freedom Is a Place قامت بتجميع أوراق مشبعة بالحبر واستخدمت ألواناً مائية لابتكار سماء ليلية متكسّرة كالهاوية. لصقت في هذا الفضاء شريحة صغيرة من طابع يعود إلى سنوات الحرب الأهلية، كتحية إلى جدّيها اللذين جمعا الطوابع طيلة فترة الحرب (1975–1990).

قالت إن مفاهيم الدولة والجنسية لعبت دوراً مهمّاً لدى استخدامها تلك الطوابع؛ فالمواد البسيطة تحمِل ذاكرة سياسية وشخصية في آن واحد.

العنوان نفسه يستحضر فكرة الجغرافية لدى العالمة روث ويلسون غيلمور، التي ترى أن التحرير والإلغاء يجب أن يُفهما عبر الفضاء المادي؛ فالحرية لا تُفهم بمعزل عن الواقع الفيزيائي والخرائط. في ذلك امتزاج بين وجودي وطموحي—ما الذي ينبغي أن نملكه وما الذي يجب أن نسعى إليه.

رغم أن السلسلة نَبَتت من تفكّر تحريري وتحرّكت بفعل قصف إسرائيل للبنان، لم تصمّم لتكون وثيقة ثورية بالمعنى التقليدي. كانت وسيلة لمجاراة الحزن والخوف والذنب؛ بحسب بيجاني «ليست شفاءً، بل مجابهة لما يحدث».

الأعمال مُحكمة بالزمان كما هي مُحبوسة بالمكان؛ تنقل عملية العمل خلال شهور حصار لبنان وإبادة فلسطين في وقت حقيقي، والرضّ عن الأرض يصبح جزءاً لا يتجزأ من العمل بقدر انقضاء الأشهر بين ديسمبر 2024 ويونيو 2025.

يقرأ  لسان الأرض — إميلي كام كنغواراي

كان لكتاب الكاتب الفلسطيني محمد الكرد «ضحايا مثاليون» (صدر في فبراير) دور مركزي؛ ففيه يتساءل عن سبب وجوب أن يبرهن الفلسطينيون على إنسانيتهم، ويؤكد أنهم لا يجب أن يكونوا خاضعين أو مُسالمين حتى يستحقوا الحياة. هكذا نسجت بيجاني كتاباته داخل أعمالها لتؤكّد أن «أحلام متعمّدة» ليست محاولة لـ«تأثيث» أو تليين صورة الإنسان الفلسطيني.

وأضافت أنه ورثت نزعة لدى كثير من العرب للظهور بمظهر مُرضٍ ومحترم، «أن نكون أفضل من من يضطهدنا». كانت متعبة من حمل هذا الموقف، فلم ترغب في صناعة فن يسعى إلى تَأْنِسِنا أو التسوّل من أجل قبول الغربيين.

وبالطبع، ينسكب الغضب في هذه السلسلة الفنية أيضاً. في هذا الشارع، الهواء الذي تتنشقونه، والسحب والسماء — كلها لنا. تغطي غابرييل بيجاني زهور البوغنفيليا المقطوفة من شوارع بيروت فوق شخصيات مرسومة بالحبر تمشي ببطء نحو الليل مبتعدة عن أرضها. العنوان مقتبس من صرخة فتاة من غزه وجهتها إلى جنود اسرائيل في 2023.

رفضت بيجاني أن تنتج أعمالاً تهدف إلى نيل إعجاب الغرب، ورفضت كذلك توجيهها إلى جمهور غربي. وبعد وقت قصير من بدء السلسلة، قررت أن تعرضها في بيروت رغم كونها مقيمة بين فرنسا والمملكة المتحدة. قالت: «بالنسبة لي لم يكن ممكناً أن أعرض هذا في الغرب. لم أكتبها للجمهور الغربي، رغم أنني نشأت هناك. هذه فن لشعبي؛ هم وحدهم من سيفهمونه.»

في ربيع هذا العام اجتاحت الحرائق الضفة الغربية، مما أجبر مجتمعات على النزوح وأحرق أكثر من ستة آلاف فدان من الأرض. وفق ما تقول بيجاني، احتفل كثيرون على الإنترنت بتلك الحرائق بوصفها «عقاباً» لإسرائيل؛ أما هي فترحمت عليها. «رأيتها ببساطة كأنها وطننا يحترق»، قالت.

لم تسنح لبيجاني فرصة زيارة حيفا — مسقط أجدادها من جهة الأم — ولا زيارة أي مكان آخر في فلسطين. تصف الأرض بأنها «مكان مُقدَّس» حرفياً، ليس لأسباب دينية بل لطريقة التقديس التي تتحلى بها في ذاكرة من قطعوا عنها. هذا القطع والاغتراب يشكلان تعريف عملها الفني.

يقرأ  فولكس فاجن تكشف عن أربعة سيارات كهربائية جديدة قبل انطلاق معرض IAA Mobility

«لدي حبّ للأرض بذاتها. هي شيء أشبه بالخيال، نقرأ الشعر عنها، أصبحت حلماً نتمناه»، تقول.

الحروب المستمرة والصراعات لم تُؤثر فقط على صناعة العمل بل امتدت لتطول طرق عرضه أيضاً. أُلغيت رحلتها الأولى إلى بيروت في يونيو حين أعلنت إيران واسرائيل الحرب على بعضهما. وعندما وصلت أخيراً، تذكرت بيروت في خريف 2024 حين قتل 45 شخصاً في قصف اسرائيلي لدَهيّة، الضاحية التي يقطنها أكثر من عشرين ألف لاجئ فلسطيني.

«نعيش دائماً ونحن نعلم أن الخطر قريب»، تضيف. «من الغريب أن تتسوق في المدينة وأنت تسمع أن الضاحية تُقصف.»

ربما تكون Deliberate Dreams نتاج محاولة بيجاني استيعاب الإبادة والنزوح، لكن العنف الذي ولّدها لم يتوقف، ولا أيضاً إحساسها بالصدمة النفسية. في الأسابيع التي تلت اختتام المعرض، وبعد عودتها إلى لندن، وجدت صعوبة في نسيان عِسكرة وطنها.

«حتى الآن، عندما أسمع صوت أزيز أظن للحظة أنه طائرة دون طيار قبل أن أكتشف أنه طائرة عادية أو قطار»، قالت. «أنا محظوظة للغاية، ومع ذلك أعاني هذا التوتر والصدمة.»

إلى جانب الصدمة، شعرت بيجاني ببرود وانسحاب من بعض زملائها في مجتمع الفن بلندن، وعزت ذلك إلى الإحراج الذي تثيره كلمات مثل «إبادة» أو «استعمار» عند من لم يمسهم الأمر مباشرة. ومع ذلك، يظل عملها لا ينفصل عن هويتها اللبنانية الفلسطينية.

«في المستقبل أريد أن أعمل على العلاقة بين الغضب والكرامة. أريد للناس أن يشعروا أن التعبير عن الحزن وفتحه ينبع من حب. عملي يدور حول الحب لأرضنا وشعبنا.»

أضف تعليق