احتفلوا بوقف إطلاق النار — لكن لا تغفلوا: غزة صمدت بمفردها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

في السابع من نوفمبر 2023 وقف أطفال أمام الكاميرات في مستشفى الشفاء يتكلمون بلغة ليست لغتهم الأم، بل بلغة من ظنّوا أن في نطقها خلاصهم. قال أحدهم: «نريد أن نعيش، نريد السلام، نريد محاسبة قتلة الأطفال». وأضاف آخر: «نريد دواء وغذاء وتعليمًا. نريد أن نعيش كما يعيش باقي الأطفال». وبعد مرور أقل من شهر على المجزرة لم يكن لدى تلك الأجساد الطاهرة ماء شرب نظيف ولا طعام ولا دواء. توسّلوا بلغة المُستعمرين أملاً في أن تجعل إنسانيتهم قابلة للقراءة.

أتساءل الآن كم منهم لم يَبقَ على قيد الحياة، وكم لم يرى لحظة «السلام» تلك، وهل مات وهم ما زالوا ينوحون بأن العالم قد يجيب ندائهم؟

بعد نحو عامين، يتباهى رئيس الولايات المتحدة بتوقيع «المرحلة الأولى» من «خطة سلامه»، ويثني عليه زعماء آخرون، ويطالب آخرون بمنحه جائزة نوبل. تباينت الأطر السياسية فجاءت التصفيقات من أولئك الذين أمضوا سنتين، والسبعين والسبع سنوات التي سبقتها، يمولون ويزوّدون ويجعلون الجريمة ممكنة.

لكن غزة لم تكن بحاجة إلى منقذين؛ غزة كانت بحاجة إلى أن يكفّ العالم عن قتلها. كانت بحاجة إلى أن يُترك شعبها يعيش على أرضه بحرية، بلا احتلال ولا فصل عنصري ولا إبادة. كان مطلب أهل غزة بسيطًا: أن تُطبّق عليهم المعايير القانونية والأخلاقية التي يُنعم بها على من قتلهم. كشفت مجزرة غزة عن عالم يدّعي العدالة لكنه يمول الظلم، وعن شعوب جعلت البقاء نفسه فعل مقاومة.

فلتكن التحية للشعب الفلسطيني، لصموده ولقدرته الجماعية. رفض الفلسطينيون أن يطغى عليهم سردٌ مفروضٌ يقول إنهم متسولون يطلبون الإغاثة، أو «إرهابيون» ينبغي أن يُحاسبوا، أو أي شيء أقل من أناس تحفظ كرامتهم دون تحقير.

غزة لم تُقهَر؛ بل فشلنا نحن. قاومت غزة حين توقع العالم أن تنكسر. وقفت غزة وحيدةً حين لم يكن من المفترض أن تُترك وحيدةً. صمدت غزة رغم التخلي الدولي رغم حكوماتٍ مولت تدميرها وتُعلن اليوم أنها صانعة سلام.

يقرأ  هجوم الدوحةنتنياهو يعلن حربًا على العالمفي خضمّ الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني

كإنسان مؤمن، أستحضر قوله تعالى: «وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون» (سورة البقرة: 11).

ما أشد السخرية من أن تُسَمّى هذه السنوات الطويلة من المجاعة والقصف والقبور الجماعية «سلامًا»، حينما لم يأتِ للعائلات سوى الأكفان بدل الرغيف.

وفي حين نزفت غزة، أتقن الأقوياء فن الإنكار. وعندما رأيت أهل غزة يخرجون إلى الشوارع يحتفلون، عرفت أن هذا الفرح ملكهم وحدهم؛ ليس لدونالد ترامب الذي يزعم أنه سيزور المنطقة ليحصد ثمار ما يسمّيه «حدثًا تاريخيًا»، ولا لزعماء الغرب الذين استفادوا من دمار غزة وهم يتظاهرون بالحياد. أولئك الذين يهرعون إلى الكاميرات ليُحصدوا الفضل هم أنفسهم من جعل الإبادة ممكنة: مولّوا بمليارات المساعدات العسكرية، زوّدوا بالدقيقات الموجّهة وصواريخٍ اصطدمت ببيوت نائمة، ووفّروا الغطاء الدبلوماسي في مجلس الأمن عبر الاعتراض المتكرر على قرارات لوقف النار. خلال المجزرة وافقت الولايات المتحدة على حزمة إضافية من المساعدات العسكرية قيمتها 14.3 مليار دولار، متجاوزة الرقابة البرلمانية عدة مرات لإرسال صواريخ وطائرات ومقاتلات وقنابل استهدفت المدنيين أثناء نومهم.

علينا، نحن الجالسين في رخاء الغرب، أن نشعر بالخجل. يحب الأمريكيون أن يتخيلوا أنفسهم في جانب الحق من التاريخ. نقول إننا لو كنا في زمن جيم كرو أو الهولوكوست لفعلنا كل شيء لإيقافه. ومع ذلك، في بلد يضم 340 مليون نسمة، لم نستطع إيقاف أموالنا الضريبية عن تمويل الإبادة. ولم ننجح حتى في إيصال حليب الأطفال بينما كانت الأجساد الصغيرة تذبل. جلّ من وقف متواطئًا صنع أعذارًا لما لا يُعذر، لام الفلسطينيين على موتهم، وأدرنا وجوهنا عن الرعب لأن الاعتراف يعني مواجهة دور حكوماتنا في التمويل. هذا الفشل لم يُطفئ فاعلية الفلسطينيين؛ بل جعلها أكثر بروزًا.

يقرأ  متظاهرون مؤيدون لفلسطين يستهدفون تدريبات المنتخب الإيطالي قبل مواجهة إسرائيل في كأس العالم

الضغط الوحيد الذي أحدث فرقًا جاء من الفلسطينيين الذين لم تستطع إسرائيل إسكاتهم، من بثّوا موتهم حيًا كي لا يسوغ للعالم الجهل ولا يقبل أكاذيب إسرائيل. نجت غزة بفضل مقاومتها، ومقاومة أهلها حقهم. جاء وقف النار لأن صمود الفلسطينيين كسر شيئًا لا تستطيع القنابل المسّ به، ولأن قناع «براءة» إسرائيل تهاوى أمام وقائع مباشرة على الهواء، ولأن الرأي العام العالمي انقلب ضد إسرائيل رغم كل محاولات صنع قبول للإبادة. ما تحقق مكتوب في سجلات الضحايا المدنيين، لا في وعود الأمن. هذا ما أجبر على هدنة.

كان محمود درويش قد ملك التعبير عن ذلك: «ستنتهي الحرب. سيتصافح القادة. ستظل العجوز تنتظر ابنها الشهيد. تلك الفتاة ستنتظر زوجها الحبيب. وأولئك الأطفال سينتظرون والدهم البطل. لا أدري من باع وطننا. لكني رأيت من دفع الثمن». اليوم يوسّطون بين القاتل والمقتول، بين الجزار والمذبوح، ويسمّون ذلك تقدماً. الثمن دُفع بدماء الفلسطينيين. وهناك، امرأة عجوز، عروس جديدة أو ابنة يتيمة لا تزال تنتظر عودة من أحبّتهم.

يجب أن تكون هناك مساءلة كاملة، ليس لإسرائيل فحسب، بل لكل حكومة وشركة سهّلت هذه الإبادة. لا بد من حظر شامل لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل فورًا، ومن عقوبات اقتصادية حتى الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة، ومن إطلاق سراح أكثر من عشرة آلاف رهينة فلسطيني، ومن تعويضات لإعادة الإعمار تُحدّد وتُوزّع بإرادة الفلسطينيين أنفسهم. يجب أن يُحاكم مجرمو الحرب في لاهاي مهما اعترضت دولٌ على ذلك. هذه بداية فقط. العدالة ليست خيارًا دبلوماسيًا؛ إنها الحد الأدنى لِإنسانيتنا المشتركه

موت كل طفل في غزة وكل عائلة مهجرة وكل يومٍ يُعوَّل فيه على أن القتل «دفاع عن النفس» قضى نهائيًا على «سلام» خطط له من يحسبون أنفسهم وسيطا. لا يجوز للاحتلال أن يدّعي الدفاع عن النفس ضد شعب محتَل — هذا ما أوجزته محكمة العدل الدولية في قرارها عام 2004.

يقرأ  عباس عراقجي يحذر أوروبا من نهج «متهور» تجاه الاتفاق النووي

المستقبل العادل الوحيد هو التحرر الكامل — دولة ديمقراطية واحدة تقوم على المساواة في الحقوق للجميع، تبدأ بحق غزة في تقرير مصيرها بحرية، بلا حصارٍ ولا احتلال ولا وصاية أجنبية متنكرة في عباءة حفظ السلام. لكن أولًا، كسب أهل غزة حق الحداد، حق إحصاء موتاهم ودفنهم كما يجب، وحق هذا الفرح البسيط الذي استباحته لهم الحرب. لقد كسب الفلسطينيون، عبر معاناة لا تُتصور، حق تعريف الحرية بأنفسهم. للعالم الباقي لا صفة فوقية ليخبرهم خلاف ذلك.

علينا، نحن في الغرب، أن نضمن ألا يعود العالم إلى وضعه الطبيعي قبل ذلك. لا نسمح لأن يُخدّرنا وقف مؤقت للقصف بينما يستمر الاحتلال. لا يمكن لإسرائيل أن تتابع حياتها كأنها لم ترتكب أعظم جريمة في جيلنا. الضحايا المئات الآلاف من الفلسطينيين لا يسمحون باستمرار إنكار العدالة.

لا نرتاح حتى يُهدم نظام الاحتلال والفصل العنصري ويُستبدل بالتحرر. هذه مجرد البداية.تحيا فلسطين من النهر إلى البحر.

أضف تعليق