بامبندا، الكاميرون — في يوم الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أكتوبر 2018، شاهدت آني نسالّا، التي كانت تبلغ حينها ستةَ عشرَ عاماً، من نافذة غرفة جلوسها عناصرً منفصلين أنغلوفونيين يثيرون الفوضى في شوارع بامبندا، يطلقون النار ويهدّدون الناخبين لردعهم عن التوجّه إلى مراكز الاقتراع.
كانت تلك أول انتخابات تُجرى منذ اندلاع النزاع المسلّح في منطقتي الشمال الغربي والجنوب الغربي الناطقتين بالإنجليزية عام 2016.
عندما تدافع الناس مذعورين، ترجلت نسالّا إلى الأرض لتتفادى الرصاص الطائش وزحفت ببطء إلى أمان غرفتها. تقول إنّ العنف الذي شهدته ذلك اليوم ترك ندبة لا تزال صورها حاضرة في ذاكرتها.
خلال الصراع الذي امتدّت تداعياته لنحو عقد من الزمن، فقدت نسالّا على الأقل ثلاثة من أقاربها بسبب «الظروف الصعبة»، كما تصفها، في إشارة إلى أعمال العنف المسلّح في جزء من الشمال الغربي.
ومع ذلك، دفعها أملها في بلد أفضل إلى الخروج مسجّلةً اسمها في يوليو، إذ بلغت الآن سن الاقتراع وتعتزم أن تترك بصمتها في انتخابات الأحد. تقول الشابة البالغة من العمر 23 عاماً لـ«الجزيرة»: «أنا لا أفعل شيئاً خاطئاً. أريد أن أصوت»، ثم تعترف: «لكن لا أعلم إنّي سأصوت»، معربةً عن خشيتها من تكرار ما حدث في 2018.
«نعيش في خوف دائم من أن يحدث شيء في ذلك اليوم»، تقول نسالّا. «نشعر بأن ثمة قيوداً مفروضة علينا من الطرفين: من جهة غياب ضمانات أمنيّة كافية من قوات الدولة لتحرّك الناس، ومن جهة أخرى تهديدات ما يُعرف بـ(أمبا بويز)»، في إشارة إلى المقاتلين الانفصاليين المحليين.
مخاوفها تتردّد لدى آخرين في بامبندا، عاصمة الشمال الغربي، وكذلك في الجنوب الغربي، وهي المنطقة الأخرى التي شهدت سنوات من التوتر والعنف. لعقودٍ اشتكى المواطنون الناطقون بالإنجليزية في هاتين المنطقتين من تهميشٍ من قِبَل الحكومة الناطقة بالفرنسية في ياوندي، وتصاعد الوضع عندما بدأ الانفصاليون يتصادمون مع قوات الدولة قبل سنوات.
منذ اندلاع الأزمة، حاول الانفصاليون منع السكان الأنجلوفون من المشاركة في الفعاليات التي تنظمها الدولة، مثل احتفالات العيد الوطني والانتخابات؛ فرضوا مقاطعات وإغلاقات وأمروا الناس بالبقاء في منازلهم في مثل هذه المناسبات، كما فعلوا خلال الاستعدادات لتصويت هذا الشهر.
إيف سوه*، ناخبةٌ طموحة تُشارك للمرة الأولى، تقيم في حيّ آلافبوكُن في بامبندا — واحد من «المناطـق الحمراء» التي تصنّفها الحكومة كنقاط ساخنة لانعدام الأمن. بحسب سوه، لا يمر شهر تقريباً دون إطلاق رصاص ومواجهات بين الانفصاليين وقوات الأمن. المشهد ذاته يتكرر في أحياء حمراء أخرى مثل نتانكار، حيث يروي السكان عن معارك مسلّحة متكررة واعتقالات وخطف على نطاق واسع.
في ظل هذا الواقع، يتردّد بعض الناخبن بشأن المشاركة في اقتراع نهاية الأسبوع. أخبرت سوه «الجزيرة» أن كثيرين يتردّدون حتى في الحديث عن الانتخابات خشية أن يستهدفهم الانفصاليون. «لا أحد يعلم من سيصوّت وأين. هناك جواسيس هنا وهناك. الجميع يخشى القتل أو الخطف من قِبَل هؤلاء الشباب»، تقول، في إشارة إلى المقاتلين.
«هي لحظة حاسمة لكنني لا أعرف كيف ستكون الأوضاع. كيف أخرج للصوت في ذلك اليوم دون أن أتعرض لإطلاق النار؟» تتساءل سوه. «بعضنا محاصر. إذا استمر الإغلاق، كيف تخرج؟ كيف نصوّت؟ كيف نقرر من يدير هذا البلد وقد يؤدّي ذلك إلى وقف العنف؟»
وفق تقارير إعلامية حول انتخابات 2018، استعرض أكثر من عشرين مقاتلاً انفصالياً في شوارع بامبندا يوم الاقتراع لترويع الناخبين. وأفادت التقارير أيضاً بأنّ مقاتلين انفصاليين قُتلا برصاص الجيش بعد هجمات استهدفت مراكز اقتراع آنذاك. في ذلك الوقت، اختير أكثر من 2300 مركز اقتراع في الشمال الغربي للانتخابات الرئاسية، لكن التهديدات الأمنية قلّصت العدد إلى 74 فقط.
وهذا العام، بحسب بيانات نشرتها هذا الأسبوع هيئة الانتخابات في الكاميرون (ELECAM)، لدى الشمال الغربي 596 مركز اقتراع ويبلغ عدد الناخبن المحتملين نحو 135,974، بينما يملك الجنوب الغربي 1,908 مراكز اقتراع ونحو 405,823 ناخباً.
بينما يستعد الكاميرونيون عبر البلاد لانتخاب رئيس جديد، يسعى الحاكم الحالي بول بيا، البالغ من العمر 92 عاماً وأكبر زعيم في العالم، لنيل ولايةٍ ثامنة في رئاسة الدولة. يتنافس معه 11 مرشحاً آخرين، بينهم وزيران حكوميان سابقان: عيسى تشيرومة بكاري وبيلو بوبا ميغاري.
تشيرومة، الذي كان وزير الاتصال في عهد بيا، أعلن سابقاً أن «لا أزمة أنغلوفونية»، لكنه زار بامبندا خلال حملته الانتخابية واعتذر عن تصريحاته الماضية. قال مخاطباً السكان: «أدرك أن كثيرين تأذوا من ذلك التصريح. شعرتُم بالإساءة، وأنا أيضاً تكبدت أموراً لأني لم أملك خياراً»، كما تعهّد بالإفراج عن السجناء السياسيين ومنحهم العفو إذا انتُخب.
ميغاري، الوزير السابق للسياحة، زار بدوره بامبندا في إطار الحملة وواعد بأنه إن فاز سيشرع في حوار مع قادة الانفصاليين سعياً إلى سلام مستدام.
تولّى بيا السلطة عام 1982 بعد استقالة الرئيس الأول أحمدو أهيدجو. وستُمكّنه ولاية جديدة من البقاء في الحكم قرابة خمسين عاماً. بدأت أزمة الأنجلوفون في عهد بيا عام 2016 باحتجاجات سلمية قادها محامون ومعلمون ناطقون بالإنجليزية ضدّ فرض قضاة وإداريين ناطقين بالفرنسية في محاكمهم ومدارسهم. سرعان ما امتدت التظاهرات لتشمل قطاعات أوسع تطالب بالاستقلال الأنجلوفوني، وإثر ذلك شنت قوات الأمن الحكومية حملة قمع عنيفة على المحتجين في 2017.
تراكمت بذلك سنوات من الاستياء لدى الأقلية الأنجلوفونية التي شعرت بالإهمال والتهميش، فتحوّل الغضب سريعاً إلى عنف بين قوات الدولة وجماعات انفصالية تطالب بتكوين كيان منفصل يُعرف باسم «أمبازونيا». العنف لم يتوقف
أفاد المجلس النرويجي للاجئين في تقريره الأخير الصادر في حزيران/يونيو أن الكاميرون أصبحت اليوم مسرحًا “لأكثر أزمات النزوح المُهملة في العالم”. وتشير منظمات حقوقية وإغاثية إلى أرقام مروعة: حسب هيومن رايتس ووتش، قُتل ما لا يقل عن ستة آلاف مدنياً على يد القوات الحكومية والمقاتلين الانفصاليين المسلحين في منطقتَي الشمال الغربي والجنوب الغربي منذ أواخر 2016. كما تقول اللجنة الأمريكية للاجئين والمهاجرين إن حالة عدم الاستقرار دفعت أكثر من ٩٠٠٬٠٠٠ شخص للنزوح داخل البلاد وحوالي ٦٠٬٠٠٠ آخرين إلى اللجوء خارجها.
تنتشر مركبات محترقة متناثرة في أنحاء إقليم الجنوب الغربي، شاهدةً على الاضطراب العميق الذي تعيشه المنطقة.
انتخاب جديد… نفس المصير؟
عندما جرت الانتخابات الرئاسية عام 2018، شارك جزء يسير من سكان المناطق الأنجلوفونية في الاقتراع رغم وجود اهتمام انتخابي ملحوظ. تشير الإحصاءات إلى أن أنشطة الجماعات المسلحة أثّرت بصورة كبيرة على نسب المشاركة: ففي الشمال الغربي صوّت نحو ٥.٣٦٪ فقط، وفي الجنوب الغربي بلغ الحضور الانتخابي حوالي ١٥.٩٤٪.
جيريمي فروو*، أب في الأربعين من عمره ومن مواليد بامندا، قال للجزيرة إنه رغم انعدام الأمن خرج للتصويت عام 2018. لكنه يرى الآن أن الأزمة تصاعدت إلى مستويات جديدة وأشدّ، مما يضعه أمام “خطر عدم المشاركة”. “من الصعب أن تعرف ما إذا كان بإمكانك الخروج [للتصويت] كما فعلنا في 2018″، أضاف، مشيراً إلى أنّهم أُجبروا على البقاء في المنازل لأيام نتيجة الإغلاقات التي تفرضها الجماعات الانفصالية. الوضع آنذاك كان مختلفاً، والتهديدات تبدو اليوم أشد بكثير.
يؤكد أن محاولة الانفصاليين استخدام السلاح طوال العقد الماضي لم تُحقق التغيير المنشور، وهو ما يدفعه إلى التمسك بالأمل في أن يأتي التغيير هذه المرة عبر صندوق الاقتراع: “أريد رؤية التغيير من خلال الصندوق. لم يحدث ذلك في 2018، لكنه قد يحدث هذه السنة”، معتبراً أن الانتخابات الطريق الوحيد للتغلب على حكومة بيا.
يحملون قلوبهم في كفوفهم
يصف تيلاريوس آتيا، عالم السياسة المقيم في بامندا، الوضع الأمني في الشمال الغربي بأنه “صعب للغاية”. أخبر الجزيرة أن الجماعات الانفصالية تضاعف من تكتيكاتها وغالبيتها تفاجئ قوات الأمن بعملياتها. “في 2018 لم تكن قدرات هذه المجموعات من حيث القوة النارية كما هي اليوم. لقد انتقلوا إلى استخدام عبوات متفجرة متطورة ولا نعلم إلى أي مدى قد يصلون يوم الانتخابات”، حذّر.
“سيكون يوماً من بطاقات الاقتراع والررصاص”، هكذا وصف المحلل سيناريو الانتخابات في المناطق الأنجلوفونية، موضحاً أن الناخبين سيواجهون خياراً قاسياً: إما الإدلاء بأصواتهم تحت وابل الرصاص أو ترك بطاقاتهم في المنزل حفاظاً على الأرواح. الناخبون “يحملون قلوبهم في أيديهم وينتظرون ليرَوا كيف ستسير الأمور”، على حد قوله.
نصح آتيا أيضاً الجماعات الانفصالية بأن توقف منعا للتصويت لن يغيّر شيئاً: “طوال السنوات التسع الماضية استخدموا البنادق والرصاص ولم يتغير شيء؛ وإذا أرادوا التغيير فعليهم أن يدركوا أنه قد يأتي من صندوق الاقتراع”.
من جهته، يرى ستيفن إتشوتشو، خبير السلام وحل النزاعات ومقيم في بيوة، أن الجنوب الغربي يمر بـ”وضع أمني متقلب” بينما الشمال الغربي في “فوضى تامة”. كلا الإقليمين خضعا لإغلاق تفرضه الجماعات الانفصالية منذ نحو ثلاثة أسابيع، لكن الشمال الغربي تحمّل عبء الأزمة أكثر من غيره مع سنوات من عنف متصاعد وإغلاقات أشدّ.
قال إتشوتشو إن انعدام الأمن سيعيق نسبة المشاركة: “هناك مناطق تخضع لسيطرة المجموعات غير الحكومية ونشاطاتهم قائمة، وفي هذه الأماكن لن يتمكن الناس من التصويت. هناك كثير من الناس كانوا يرغبون في التصويت ولن يستطيعوا. إذا كانت الأوضاع الأمنية مضمونة فإن السكان سيمارسون حقوقهم السياسية، وإذا لم تكن كذلك فسيحافظون على حياتهم”. وناشد الحكومة الوطنية أن تعالج الصراع نهائياً، مؤكداً ضرورة ضمان الأمن قبل وأثناء وبعد الانتخابات وأن تُؤمّن انتخابات حرة ونزيهة.
في بامندا، تقول نصالة إنها رغم المخاطر مصممة على التوجه إلى صناديق الاقتراع يوم الأحد، وتأمل في يوم من الأيام أن تستطيع أن تصوّت دون خوف كإخوانها وأخواتها في باقي المناطق. “أتساءل إن كنا سنستطيع يوماً أن نصوت بحرية مثل غيرنا”، قالت.
*تم تغيير الأسماء لأسباب أمنية.