سدّ الفجوة في مهارات التفكير النقدي

نعاني، كمجتمع، من أزمة في التفكير — رفض مستمر أو عجز متجذر عن التفكير الجيد والنقدي. هذا موقف شخصي لا أقصد به التطرف، لكن تفسير أسباب هذه الأزمة يتطلب تحليلاً واسعاً للعوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية والأنثروبولوجية يتجاوز غرض هذا النص.

يكفي أن تمرَّ سريعاً على أي «نقاش» في وسائل التواصل الاجتماعي حول قضية ثقافية ملحة لتدرك حجم المشكلة. وإذا قبلنا ولو جزئياً بوجود هذه الأزمة، فسنرى أن نظام التعلم نفسه يعكسها ويغذيها؛ فالتعليم سبب ومتأثر في الوقت نفسه بنمط التفكير السائد.

التعليم كما هو
نظام التعليم الرسمي مبنٍ على شبكة من المقررات والصفوف العمرية. الأعمدة تمثل مجالات المعرفة والصفوف تمثل الفئات العمرية. في الولايات المتحدة، مثلاً، يمضي التلميذ قرابة ثلاث عشرة سنة يدرس أربع فئات معرفية رئيسية — الرياضيات والعلوم والدراسات الاجتماعية واللغة — تتبلور تدريجياً وتزداد تعقيداً، لكن نادراً ما تُعاد تركيبها برؤية أوسع تربط العلوم بالإنسانيات أو تبتكر مجالات معرفية جديدة تتجاوز إطار «المحتوى» التقليدي.

بالتالي، التعليم كما هو يتركز على المحتوى وقياس إتقانه عبر درجات وشهادات تؤهل لدراسات تخصصية لاحقة — غايةٌ تبدو في كثير من الأحيان تحضيرية لمهنة لا لتكوين إنسان مفكر. المدرسون والمقررات والدرجات الظرفية هي مكونات النظام الظاهرة، إلى جانب الاختبارات والكتب والفصول والمدارس بوصفها بنية معيارية.

العقلنة والمييارية في المؤسسة التعليمية
للنظام التعليمي آليات معيارية تجعل منه شبيهاً بمنتج صناعي موحَّد، وبهذا فقد صار يشبه نموذج «ماكدونالدز» في التنظيم الاجتماعي كما ناقشه جورج ريتزر مستنداً إلى أعمال ماكس فيبر. فيبر رفض الطرق التقليدية للاستدلال لصالح عملية عقلنة وفصل بين الوسائل والغايات، وقدم البيروقراطية كأقرب صورة لتجلي تلك العقلنة: هيكل هرمي، تقسيم صارم للعمل، قواعد مكتوبة، وحيادية تقنية تُقنّن العلاقة بين الناس.

يقرأ  فيتنام تستعد لإجلاء نصف مليون شخص قبل حلول الإعصار «كاجيكي»تحذيرات من تأثيرات شديدة واستنفار واسع في ظل أزمة المناخ

ريتزِر ربط هذه العقلنة بمفهوم «التوحيد التنظيمي» الذي يجعل المؤسسات أقل إنسانية أحياناً، فالمنطق الكفائي يؤدي أحياناً إلى لا عقلانية: أنظمة عقلانية تصبح غير معقولة لأنها تنكر الجانب الإنساني والعقل الجمعي لأولئك الذين يعملون فيها أو يخدمونها.

المقايضة: الاتساق أم التفكير؟
توحيد المنهج والتعليم إنتاجٌ مقايض: ما نكسبه من قابلية القياس والتعميم نخسره من تنوّع التفكير وإمكانات النقد. في تصميمٍ يعامِل كل طالب باعتباره وحدة قابلة للتوحيد، تهمل الفروق الفردية في الخلفيات والشغف والاحتياجات المحلية والذاكرة الثقافية. النتيجة: عجز في التفكير الناقد يغلبه النمطية بدل الفضول والتحقيق.

التفكير النقدي: تعريف وأهمية
التفكير النقدي ليس مجرد تقنية معرفية بل فعل مستمر من التشكيك المنهجي في الأشكال والوظائف والمقدمات. هو آلية لانطلاق التغيير الفردي والاجتماعي لأنه يدرب العقل على مساءلة كل ما يراه، بما في ذلك الفضاء التعليمي ذاته. على عكس العلم الذي يسعى إلى مخرجات محايدة قابلة للتكرار، فإن التفكير النقدي عملية لا نهائية تتفاعل مع أدلة متغيرة وتعيد تشكيل الاستنتاجات باستمرار.

هل يمكن تعليم التفكير النقدي؟
السؤال الشائع عمّا إذا كان بالإمكان «تعليم» التفكير النقدي يغفل السؤال الأهم: ماذا نخسر إن غابت هذه القدرة عن عالمنا؟ بدلاً من الجدل حول إمكانية التعليم، ينبغي أن نسأل كيف ندمج التفكير النقدي في بنية教育 الحديثة بحيث يصبح جزءاً لا يتجزأ من ماهية التعلم.

مقترحات لإدماج التفكير النقدي
1. تصميم مناهج تُثري التفكير النقدي: مناهج تُشجّع التحقيق المستمر والتساؤل المنهجي، لا مجرد حفظ المحتوى.
2. نماذج تعلم تفرض التفكير الجماعي والفردي: أساليب لا تعمل إلا إذا فكر الجميع بشكل نقدي — مثل قارب تجديف يحتاج مشاركة كل من فيه.
3. أدوات تقييم تعكس عملية التفكير: درجات وشهادات تُظهر تسلسل التفكير، الأنماط، والنتائج لا مجرد صيغ معلوماتية.
4. ممارسات ثقافية تُثمّن النقد على الشعبية: تشجيع بيئات تُقدّر الحجة والبرهان أكثر من قبول الرأي العام.
5. تمكين المعلمين كقادة تصميم التعلم: معلمون محترفون قادرون على بناء خبرات تعلمية تُنمي الاستقلال الفكري لدى الأطفال.
6. حوار مجتمعي مستمر: تواصل بين المدارس والأسر والمجتمع والاقتصاد المحلي حول ضرورة وطبيعة التفكير النقدي.
7. استثمار مواهب كل طفل: خلق فرص تعليمية تستغل عبقرية كل تلميذ وتوضح مواهبه أمام نفسه.

يقرأ  بوتين يشكر كيم جونغ أون على مشاركة مقاتلين من كوريا الشمالية في القتال بأوكرانيا

الخلاصة
المدارس كما هي اليوم لم تُصمم لتكون حواضن للتفكير النقدي بالقدر الكافي، ولذا نعاني كحضارة من عجز ملحوظ في هذه القدرة. بدلاً من التركيز على تحسينات طفيفة متكررة، يجب أن نتخيّل تعليماً مُعادَ تصميمه ليزرع النقد والفضول في لبّ بنائه. فقط حينها يمكننا أن نتجاوز عيبنا المؤسساتي وننضج فكرياً كأفراد ومجتمعات.

أضف تعليق